مناهضة العولمة و الليبرالية الجديدة
مقال من :التقرير العربي الاستراتيجي، نقلا عن موقع الأهرام: http://acpss.ahram.org.eg/ahram/2001/1/1/RARB59.HTM
ملاحظة: يتضمن هذا المقال: العناصر الأساسية في البحث: مفهوم العولمة و تطورها + انعكاساتها الاجتماعية و الاقتصادية+ آليات مواجهة العولمة
أصبحت العولمة ظاهرة عالمية شديدة الاتساع والانتشار، لا تقتصر فقط على المجال الاقتصادى والمالى، وإنما تمتد أشكالها وتجلياتها إلى كافة المجالات. فالعولمة، من حيث هى الانتقال السريع للأفراد والأموال والأفكار عبر العالم، تزيد من التواصل والتفاعل بين الأفراد والمجتمعات، كما أنها تعطى للاقتصاد مكانة مهيمنة على حركة التفاعلات بين الدول، وكذلك داخل المجتمعات، وتزيد من حدة التنافس الاقتصادي فيما بينهم.
على الجانب الآخر، أصبحت كلمة العولمة بالنسبة للكثيرين فى العالم مرادفاً للنهب الاقتصادى الذى يتعرضون له، نظراً لما أفرزته العولمة من أثار مدمرة على شعوب الكثير من بلدان العالم الثالث الذي يرزح تحت وطأة الديون وعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي وتعاني شعوبها من البطالة والفقر وغياب العدالة الاجتماعية. ولا ينحصر الأمر في دول وشعوب العالم الثالث، بل يمتد إلى قطاع كبير من شعوب العالم المتقدم يعاني من الليبرالية الجديدة التي تهدم بمعول التحرر الاقتصادي كل المنجزات الاجتماعية التي حققتها تلك الشعوب فى فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعبر نضال طويل ومعارك شديدة الوطيس سقط فيها الكثير من الضحايا.
اولا ـ أبعاد ظاهرة العولمة وتطوراتها
العولمة ببساطة هى الانتقال السريع للأفراد والأموال والأفكار بصورة مكثفة عبر العالم، مما يعنى مضاعفة الاتصالات والعلاقات فى كافة مجالات الاقتصاد والثقافة والاتصال، بحيث تتحرك بسرعة عبر الكرة الأرضية بأسرها، وتتجاوز الحدود السياسية بين الدول، بما يخلق حالة مكثفة من التشابك والتواصل العالمى. ومن ثم، فإن العولمة تقوم فى جوهرها على تذويب الحدود والقيود التى كانت تعوق الاتصال والتشابك العالمى فى كافة مجالات الاقتصاد والاتصال والفن والسياسة.
وعلى الرغم من أن العولمة بدأت أساسا فى المجال الاقتصادي، من خلال الإجراءات الهادفة إلى تحرير التجارة وتسريع حركة التبادل الاقتصادي، فإنها اتسعت بقوة بعد ذلك، بحيث امتدت إلى كافة المجالات، سواء عن قصد أو عن غير قصد، مما تسبب فى حدوث تغييرات هائلة فى أسلوب الحياة، من خلال اتساع نطاق حرية تدفق المعلومات، وازدياد التشابه بين القيم والأذواق والسلوكيات بين البشر فى جميع أنحاء الكرة الأرضية. ولذلك، فإن العولمة تبرز بوضوح فى المجال الاقتصادي و المالي أكثر من أى مجال آخر، حيث أصبح الاقتصاد العالمى مترابطا ومتشابكا فى الوقت الحالى بدرجة قوية للغاية، بحيث أصبحت كافة العلاقات الاقتصادية والمالية تجرى فى سوق عالمية مفتوحة بلا حدود. وفى مجال الإعلام والاتصال، يؤدى انتقال المعلومات والأخبار والمواد الإعلامية فى جميع أنحاء العالم، من خلال شبكة الإنترنت والأقمار الصناعية وأجهزة البث والاستقبال الفضائي، إلى المعرفة الفورية بالأحداث والتطورات الجارية فى كافة بقاع الأرض، ونشوء حالة من التشابه فى القيم والأذواق والعادات والأفكار.
وقد أدت ثورة الإعلام والاتصال إلى بروز فاعلين جدد على الساحة الدولية، وزيادة دور فاعلين كانوا موجودين بالفعل. ويتمثل هؤلاء الفاعلون ليس فقط فى الشركات المتعددة الجنسيات والمنظمات غير الحكومية، ولكن أيضا الرأى العام العالمى. وأصبح هؤلاء الفاعلون يلعبون دورا هاما فى تحديد الأولويات الدولية، وتوجيه سياسات الحكومات الوطنية، بدرجة أكبر بكثير من أى فترة مضت، ولاسيما فى القضايا المتعلقة الحرب والأمن والسلام على الساحة الدولية، وكذلك القضايا الإنسانية.
ورغم أن ثورة الإعلام والاتصالات خلقت ضغوطا إضافية على المجتمع الدولى للتدخل فى الصراعات الإقليمية والداخلية العنيفة، إلا أن هذا التدخل كان يتم فى الأغلب وفق الشروط الخاصة بالقوى الدولية المعنية، وبما يتوافق مع مصالحها القومية، وليس حسب الظروف الموضوعية لهذه الصراعات، وهو ما يدفع البعض إلى النظر إلى العولمة باعتبارها محاولة لصنع أو إعادة صنع العالم، فى كافة مجالات التجارة والمعلومات والاتصالات والسياسة، من خلال رؤية معينة تحددها مصالح القوى الدولية المهيمنة.
ولا تقتصر انعكاسات العولمة على الاقتصاد والإعلام والاتصال، وإنما تترك آثاراً بارزة على كافة مناحى الحياة الأخرى، وأبرزها الأمن، حيث تؤثر العولمة على الأمن بمختلف مستوياته، ولاسيما من حيث التداخل بين الأمن الوطنى والإقليمى والدولى، بالإضافة إلى ما يسببه التنافس الاقتصادى العنيف من انعكاسات سياسية وأمنية هامة، على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية. وترتبط انعكاسات العولمة فى الأساس بالآثار الناجمة عن التحولات الهيكلية الجارية فى مجالات الاقتصاد والمعلومات والإعلام والاتصال. فهذه التحولات تترك انعكاسات أمنية بالغة الأهمية على صعيد العلاقات بين الدول، أو على صعيد التفاعلات الداخلية فى المجتمع الواحد. ومن أبرز انعكاسات العولمة على المجال الأمنى أن هيمنة الاعتبارات الاقتصادية على حركة التفاعلات الدولية يسبب آثارا أمنية بالغة الأهمية على مختلف المستويات، أبرزها مضاعفة التداخل بين مستويات الأمن المختلفة، وازدياد حالة عدم اليقين من الناحية الأمنية، وبروز أشكال جديدة من انعدام الأمن على الساحة الدولية، وإعادة تشكيل استراتيجيات الأمن القومى فى ضوء تطورات العولمة.
ولكي نعرف البدايات الحقيقية للعولمة أو لسياسات الليبرالية الاقتصادية الجديدة على الساحة الدولية، يجب أن نعود للوراء قليلاً وبالتحديد ليوم 15 أغسطس 1971، حينما قام الرئيس الأمريكي السابق ريتشارد نيكسون في ذلك اليوم بإعلان وقف عملية مبادلة الدولار بالذهب لتنهار مع هذا القرار اتفاقيات بريتون وودز التي تم توقيعها في عام 1944. كان هذا هو بداية لميلاد للرأسمالية الجديدة التي تمتعت فيها الولايات المتحدة الأمريكية بحرية الإصدار النقدي وسمح بكسر كل القواعد في الأسواق النقدية والمالية لتكون تلك هي اللبنة الأولي لنظام العولمة الحرة.
شهدت المرحلة التالية على ذلك بروز النخبة الجديدة من المنظرين الاقتصاديين الذين يدورون في فلك المدرسة النقدية التي تكونت في جامعة شيكاغو حول البروفيسور ميلتون فريدمان ( الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1971 والخصم الأكبر لنظريات الاقتصادي الإنجليزي الشهير جون مينارد كينز) ووصولـها لمركز صناعة القرار السياسي، أولاً ضمن فريق العمل الاقتصادي للجنرال بينوشيه في شيلي بعد الانقلاب العسكري على حكومة سلفادور الليندي، وثانياً مع مارجريت تاتشر وحكومة المحافظين في المملكة المتحدة وبعد ذلك مع الرئيس الأمريكي رونالد ريجان في الولايات المتحدة الأمريكية.
ينجح فلاسفة الحرية الاقتصادية الجدد تحت شعار الثورة المحافظة في ترويج أطروحات الليبرالية الجديدة المعادية للنظرية الكينزية والداعية لإنهاء تدخل الدولة في النشاط الاقتصادي و الرافضة لأى معايير اجتماعية في الاقتصاد. يتم بعد ذلك تحطيم نفوذ نقابات العمال وتحرير أصحاب الأعمال من أي قيود اجتماعية تفرضها عليهم قوانين العمل، ليشرعوا في سبيل من عمليات الخصخصة التي تنهي منشآت الدولة الإنتاجية والخدمية.
كان هذا تمهيداً لما ستشهده حقبة الثمانينيات من عقيدة اقتصادية جديدة تعاون في تسيدها على العالم كل من الشركات متعددة الجنسية وبنوك وول ستريت وإدارة الخزانة الفيدرالية في الولايات المتحدة الأمريكية والمنظمات التمويلية العالمية. أنها عقيدة ( الانصياع لواشنطون) وهي العقيدة التي ستكون المرجعية الوحيدة لاقتصاديات العالم وتتمثل في: تقليص الميزانية، المزيد من الإعفاءات الضريبية، خفض الأنفاق الحكومي، تحرير التجارة وسوق تبادل العملات وطرح عمليات الخصخصة كحل وحيد وعالمي لكل المشاكل الاقتصادية. أطلق البعض على تلك العقيدة اسم (التفكير الوحيد) الذي يسعى على إجبار جميع الشعوب والدول على تطبيق نفس الحلول وأتباع نفس السياسات.
أجبرت الولايات المتحدة في التسعينيات دول جنوب شرق أسيا على تطبيق تلك الوصفة وبالذات الجزء الخاص بتحرير الأسواق المالية والتمويلية عبر أوامر البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، حيث قاما سوياً بإجبار تلك الدول ودول أمريكا اللاتينية على أتباع نموذج الليبرالية الجديدة التي تطالب به الرأسمالية الأمريكية مقابل دخول استثماراتها لأسواق تلك البلدان.
فرض صندوق النقد الدولي نفسه بقوة على الخريطة الاقتصادية العالمية كوزارة مالية على مستوي الكون مع مرور الوقت، وكانت مهمته الرئيسية هي فتح أسواق العالم القومية أمام استثمارات الدول الغنية . تم ذلك عبر سياسات التثبيت الـهيكلي التي فرضت على دول الجنوب، ومحاولة رفع الحواجز أمام حركة السلع والخدمات ورأس المال. وأصبح صندوق النقد الدولي مركزاً رئيسياً لعملية العولمة مع العديد من المؤسسات مثل منظمة التجارة العالمية ومجموعة الثمانية وغيرها من المنظمات.
يمتد تأثير تلك العولمة إلى كل ركن من أركان العالم متجاهلة لوضع الأفراد والشركات الوطنية بل واستقلال الشعوب، غير معترفة بالاختلافات بين النظم الاجتماعية والسياسية للدول المختلفة. تتركز اهتمامات العولمة حول إمكانية غزو أسواق الدول وليس شعوبها حول السيطرة على ثروات الشعوب وليس أراضيها، ولكن مع عدم قدرتها في تحقيق هدفها دون غزو عسكري يكون الخيار العسكري مطروح بقوة ولنا في سلوك الولايات المتحدة من بعد أحداث سبتمبر خير دليل. تتمثل نتائج تلك العولمة في تحطيم والقضاء على السياسات الجماعية في دول الجنوب وإنهاء تراث التدخل الاجتماعي والاقتصادي للدولة وطرح معادلات صراع بين الدولة وقوي السوق، وبين القطاع الخاص والعام والفرد ضد الجماعة، ولا نبالغ أن قلنا الأنانية ضد روح التضامن. في خضم المنافسة بين قوي العمل وقوي رأس المال تفتح الأبواب على مصراعيها أمام راس المال لينتقل أينما شاء حينما شاء في حين تقف كل العقبات أمام انتقال الأفراد بين الدول، فقد تغير شعار ليبرالية العولمة ليصبح على العكس من الشعار المعروف عن رأسمالية الأولين الشهير (دعه يعمل دعه يمر)، فقد تحول إلى دع رأس المال يفعل ما يشاء أما الأفراد فلن يمروا أبدا. لقد انتصر رأس المال على الإنسان.
تسعي الشركات الكبرى إلى إلغاء الحدود بين الدول والتغاضي عن أي قوانين محلية لتستطيع العمل أينما تشاء. وتعمل الشركات متعددة الجنسية في كافة أرجاء العالم على أنه بلد واحد ولكي تضمن عدم وجود أي معوقات لها تسعي أن تسود قواعد موحدة كافة أرجاء المعمورة. وبالطبع يجب أن تكون القواعد قد تم تحديدها بما يتوافق مع مصالحها وتعمل المنظمات الاقتصادية العالمية على فرضها ونشرها في كافة إرجاء المعمورة . وتقوم المؤسسات الكبرى بالإنتاج حيث سعر الأيدي العاملة في أدني مستوي له لتبيع منتجاتها حيث مستوي الحياة في أعلى مستوي له. والويل كل الويل لمن يرفع صوته بمعارضة هذا النموذج الليبرإلى الجديد أو من يطرح نموذجاً بديلاً أو من يعلن عدم ديموقراطية نظام العولمة حيث يتحكم قلة من الرأسماليين لم يتم انتخابهم أو اختيارهم من قبل أحد في مقدرات الشعوب وسياستهم الاقتصادية الداخلية، وتصبح الحكومات مجرد منفذ لأوامر تلك القلة ومؤسساتها الاقتصادية العالمية، فتهم الرجعية والفكر الشمولي والانتماء للماضي والشعوبية جاهزة لكل من تسول له نفسه انتقاد نموذج اللبرالية الجيدة والعولمة.
ثانيا ـ الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية للعولمة
أدت التطورات سالفة الذكر للعولمة خلال العقدين الماضيين إلى انتقال مركز القرار فيما يتعلق بسياسات الاستثمار والعمالة والصحة والتعليم وحماية البيئة من الحكومات القومية إلى يد الشركات العملاقة، حيت تتركز القوة الفعلية في يد تلك الشركات والمؤسسات المالية والتمويلية العالمية ومؤسسات الأعلام الضخمة، ويمكنهم التأثير على السياسات القومية في الدول المختلفة بما يملكوه من قوة ضغط اقتصادية وسياسية.
لم تنحصر نتائج عولمة النموذج الليبرالى الجديد في الحد من استقلال الحكومات القومية المنتخبة ديموقراطياً ولا في غياب حق الشعوب في اختيار ما يناسبها، فقد كانت أثارها السلبية على الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية شديدة الحدة.
كانت التكلفة الاجتماعية لسياسات التثبيت عالية للغاية ؛ فقد دمرت الحكومات بني المجتمع الاجتماعية تحت دعوى جذب الاستثمارات الخارجية. وقبلت الحكومات خفض الإنفاق الحكومي في مجال التعليم والصحة من اجل التخلص من عجز الميزانية، وقد أدى ذلك إلى زيادة حد الفقر وعدم العدالة الاجتماعية وتحطم بني التضامن التقليدية في دول الجنوب. وقامت العولمة بتحطيم بني الصناعة التقليدية في الجنوب وزادت مظاهر استغلال الإنسان مع الاستغلال المكثف لعمل المرآة والأطفال (وصلت حجم عمالة الأطفال إلى 300 مليون طفل في العالم وفق تقرير منظمة العمل الدولية).
وقد زاد حجم الـهوة بين الشمال والجنوب مع عولمة الليبرالية الاقتصادية لتختل النسبة بين الناتج المحلي الإجمالى للدول الغنية والفقيرة، ، مما أدى إلى تركز الثروة خلال العشر سنوات الماضية فى أيدي قلة قليلة من المجموعات والأشخاص و الشركات والبلاد، على نحو ما يوضح الجدول المرفق.
النسبة بين الناتج المحلى الإجمالى للدول الغنية والفقيرة
الناتج القومي الإجمالى للدول الفقيرة الناتج القومي الإجمالى للدول الغنية العام
1 3 1816
1 35 1950
1 44 1973
1 72 1992
1 82 1995
1 86 2000
Source: Ignacio Ramonet, Le Nouveau Capitalisme: Une Regression, Manier de Voir, No. 72, 1/2004, p.7.
وسوف نركز فيما يلى على ثلاثة آثار رئيسية للعولمة على النحو التالى:
1ـ العولمة والبطالة، فى تعبير واضح عن جوهر العولمة، يقول السيد بيرسي برنيفيك رئيس مجموعة ABB عن مفهومه عن العولمة أنها الحرية لكل فرع من فروع مجموعة الشركات التي أرئسها لتستثمر أينما وحينما تشاء، ولتنتج ما تحب أن تنتجه وتبيع ما تود بيعه . كل هذا دون أن تواجه أي معوقات حتى لو كانت بسيطة من قبل أي قوانين لتنظيم العمل أو أي تشريعات اجتماعية.
وتعد البطالة من أهم الكوارث التي نتجت وتنتج عن تعميم نظام الليبرالية الجديدة عبر نظام العولمة وهو ما وضح بشدة في الدول التي طبقت نظم الليبرالية الجديدة مثل الأرجنتين و المكسيك والبرازيل و تايلاند. ووفقا لتقرير منظمة العمل الدولية الصادر في عام 2001، فإن الصورة قد تبدو قاتمة بعض الشيء حيث وصل عدد العاطلين عن العمل و يبحثون عن فرصة عمل في العالم إلى 160 مليون متعطل عن العمل، ينتمي 50 مليون متعطل منهم للبلدان الصناعية المتقدمة. كما انه هناك أكثر من 500 مليون من الحاصلين على أجر مقابل العمل يعيشون بدخل أقل من 1 دولار يومياً.
هذا هو نتاج العولمة التي لا تضع في حسبانها اختلاف معدلات الإنتاجية من منطقة لأخرى في العالم وبالتالى لا يمكن أن توجد فرص منافسة حقيقية على المستوي العالمي لو قمنا بتطبيق معيار وشروط إنتاجية واحدة في كافة أنحاء العالم. هذا بالإضافة إلى أن سعي رأس المال إلى الحصول على معدل ربح عإلى ( معيار 15% من حجم رأس المال المستثمر كحد أدني) أو الانسحاب من الأسواق و حرمان الكثير من المجتمعات من صناعات هي في حاجة إليها ليخرج الكثير من العاملين لسوق البطالة.
تعتبر المعايير الموحدة للإنتاجية التي تفرضها عملية العولمة من أهم الأسباب التي تؤدي إلى اختفاء المنتجين ذوى معدلات الإنتاجية المخالفة للمعيار العالمي المفروض عليهم من قبل الليبرالية الجديدة و من ثم المزيد من البطالة والوظائف المؤقتة.
ثبت عبر دراسة علمية أن تحول بعض الوظائف من الشمال المتقدم للجنوب الفقير بحثاً عن الأيدي العاملة رخيصة الثمن ليس هو السبب الحقيقي في انتشار البطالة بين صفوف الطبقة العاملة في العالم المتقدم. هذه النتيجة هي محصلة دراستين في غاية الأهمية قام بهما المركز القومي للأبحاث الاقتصادية في الولايات المتحدة الأمريكية منذ عام 1997. تتم الدارسة عبر عينات كبيرة من الشركات المتعددة الجنسيات الأمريكية وتصل في النهاية إلى نتيجة بمقتضاها أن منافسة الوظائف في فروع الشركة في العالم الثالث للوظائف في الفرع الرئيسي للشركة بالولايات المتحدة الأمريكية هامشية إلى حد كبير، ولكن هناك منافسة شرسة بين الوظائف في فروع الشركة الموجودة خارج الولايات المتحدة الأمريكية. تري الدراسة أن الوظائف الجديدة التي يتم خلقها عبر الاستثمارات في فرع الشركة في البرازيل على سبيل المثال تهدد بشكل أقل الوظائف الموجودة في الفرع الرئيسي بالولايات المتحدة الأمريكية، ولكنها تهدد بشدة الوظائف الموجودة في فرع الشركة في جنوب شرق أسيا. بمعني أخر؛ تكون أعلى درجات المنافسة على الوظائف بين الأيدي العاملة للدول الآخذة في النمو و بالذات في المجالات الإنتاجية ذات المعدلات المنخفضة للقيمة المضافة. هذا لا يمنع أن الوظائف في البلدان الصناعية المتقدمة تكون في حالة منافسة فيما بينها ولكن بدرجة أقل عن تلك التي تتم بين القوي العاملة في البلدان الآخذة في النمو والعاملة في مجالات الاستثمارات الأجنبية للشركات متعددة الجنسية.
تثبت تلك الدراسة أن عمالة الدول الآخذة في النمو لا تسرق الوظائف من العمالة في الدول المتقدمة وأن تأثير ذلك على التشغيل الكلي في الدول المتقدمة لا يذكر. بل أن نموذج العولمة وتسيد النظام الحر المعتمد على التصدير للسوق العالمي وجذب الاستثمارات الأجنبية الذي يروج له البنك الدولي وصندوق النقد هو واحد من أهم أسباب البطالة في الدول الآخذة في النمو. تلك الدول التي تجذب الاستثمارات بغرض إنشاء صناعات تصديرية تدخل في حلقة مفرغة جهنمية عرفتها المكسيك في عام 1994 إبان أزمة انهيار البيزو المكسيكي. تتمثل تلك الحلقة في أن اقتصاد الدولة المتوجه نحو الخارج والذي ترتبط عملته ارتباطاً وثيقاً بالدولار لا ينجح رفع حجم صادراته بالقدر الذي يفوق نمو وارداته، والتي ترتفع أسعارها بمعدلات تفوق معدلات الزيادة في أسعار الصادرات، وينتج عن ذلك خللاً في الميزان التجاري وتزداد الفجوة بين الصادرات والواردات ليؤثر ذلك على قيمة العملة الوطنية لتصل لمرحلة الانهيار، ويستتبع ذلك في كثير من الحالات انسحاب الاستثمارات الأجنبية من سوق الدولة المعنية لتختفي الوظائف التي تم خلقها أثناء فترة النمو والتوسع.
2ـ التركيز على عولمة رأس المال وليس التكنولوجيا، تسعي العولمة لفتح الأبواب أمام الاستثمارات في كل أنحاء العالم دون أن تواجه بأي عائق يمنعها من تحقيق الأرباح وتحويلها إلى خارج البلدان المستثمر فيها. عندما يتعلق الأمر بالتكنولوجيا فأننا سنجد الأمر على العكس تماماً حيث يسيطر العالم المتقدم وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية على أسواق التكنولوجيا في العالم، فلقد تعلمت الدرس تماما من التقدم الذي أحرزته بعض دول جنوب شرق أسيا في مجال التصنيع، ولذا فهي تسعي منذ مدة إلى حصر نشاط دول الجنوب في مجال الوكلاء من الباطن وتلافي تحقيق دول أخري لمستوي تصنيع مستقل وله القدرة على تطوير تكنولوجياته الخاصة، وهو ما سيدخله في تنافس واضح مع صناعات العالم المتقدم. وتسعي الدول المتقدمة إلى عدم نقل التكنولوجيا حتى لا تتولد مراكز تنافسية جديدة، ويتمثل السلاح الفعال لتلك السياسة في تطبيق الشعار الذي أطلقه بيل جيتس، أغني أغنياء العالم ورئيس شركة مايكروسوفت في التسعينيات حين طالب تسجيل براءات الاختراعات بأكبر حجم ممكن. سمعت نصيحة بيل جيتس بحذافيرها حيث تضاعفت براءات الاختراع في الولايات المتحدة الأمريكية خلال العشر سنوات الماضية، حيث حدث نوع من التركيز تمثل فى أن 87% من 160 ألف براءة التي تم تسجيلهم في عام 2000 في العالم كانوا في الولايات المتحدة الأمريكية.
أدت هذه الـهيمنة الغربية في مجال التكنولوجية إلى رسم خريطة جديدة للعالم وفقاً لتعبير الاقتصادي جيفري ساتشس والذي اعترف بهذا، بالرغم من إنكاره لتلك الحقيقة عندما كان يعمل مع صندوق النقد الدولي. يري جيفري ساتشس أن 15% فقط من سكان العالم يشكلون المنطقة الأولي على مستوي العالم الذين يحتكرون التكنولوجيا الجديدة، والمنطقة الثانية من خريطة التكنولوجية العالمية والتي تضم حـوإلى 50% من سكان العالم يمكن لهم التعامل وتبني التكنولوجيات الجديدة، والمنطقة الثالثة والتي يطلق عليها منطقة المهمشين تكنولوجيا وهم على سبيل المثال سكان جنوب المكسيك وجزء كبير من البرازيل الاستوائية وأفريقيا وبعض مناطق روسيا، وهي المناطق التي تعاني من الفقر و تدني مستوي المعيشة. هذا التقسيم التكنولوجي من قبل العولمة سيؤدي إلى أتساع الفجوة بين الشمال والجنوب و إلى حصر عملية التطوير التكنولوجي في معيار الربح المتوقع وليس في إطار الحاجة الفعلية للبشرية، ولعل اكبر مثال على هذا قطاع الدواء وشركاته العالمية والمعركة الشهيرة مع جنوب أفريقيا والبرازيل حول حقوق الملكية الفكرية لدواء معالجة مرض الإيدز.