رابعاً: مقاومة عولمة الأسواق
مقدمات
ليست العولمة، في حالتها الراهنة، قدراً محتوماً، بل الأمر غير ذلك تماماً. وذلك، بداية، لأن كل قوة من قوى العولمة تتكون من عناصر متعددة بعيدة عن التوافق في ما بينها، ومن ثم لأن المواطنات والمواطنين، وكذلك تجمعاتهم ومنظماتهم، لم يدلوا بدلوهم النهائي في المسألة.
1- أرجلنا في “الفلقة”: نحن (في كندا) لسنا في العالم الثالث، ولكن الناس تفتقر، والهوة تزداد بين الأغنياء والفقراء. وما يزال النظام الصحي مهماً، ولكن الحصول على الخدمات تقلصت فرصه، وثمة خصخصة متسترة تتم.
والمدرسة الرسمية ما تزال فاعلة، ولكن ظروف التعليم تتدهور. وما تزال عندنا نقابات، ولكن نسبة المنتسبين إليها من القوى العاملة تتناقص سنوياً، كما يزداد عدد العاملات والعاملين المستقلين الذين يعيشون ظروف عمل مؤقت. وثمة أيضاً عقود جماعية، ولكن الكثير من النقابات يقدم التنازلات. وما يزال سارياً التأمين ضد البطالة وكذلك الرعاية الاجتماعية، ولكن المكاسب التي تقدمها هذه المؤسسات تناقصت كثيراً. وما تزال السياسات الاجتماعية قائمة، مثل ضمان الشيخوخة والمخصصات العائلية، ولكنها ليست شاملة.
إن حكوماتنا تقدم المساعدات حتى لمؤسسات اقتصادية كبيرة، وتبرر ذلك بحجة المحافظة على فرص العمل. كما أن المؤسسات تدفع نسبة أقل من الضرائب، وذلك أيضاً بحجة العمل على خلق المزيد من فرص العمل. ومع ذلك، غالباً ما لا نجد فرص العمل الموعودة.
لقد تم التعرض لبعض السياسات الاجتماعية بحجة حماية الرأسمالية من مخاطر أزمة شبيهة بأزمة الثلاثينات، يقصد الوقوع في أزمة فيض الإنتاج. ولكن ذلك يعني أن الذين يعملون ويخلقون بعملهم السلع لا يملكون المال اللازم للحصول عليها. ويفضل الرأسماليون تدمير هذه السلع على تخفيض سعرها أو وهبها للمستهلكين. فهل علينا الخشية من الوقوع في أزمة شبيهة بأزمة الثلاثينات؟ وهل الرأسمالية في طريقها إلى تدمير القاعدة التي تقف عليها من شدة هجومها على حقوق العاملين والطبقات الشعبية؟
كل ذلك وحكوماتنا لا تكف عن محاولات إقناعنا بأنه ليس أمامنا من خيار آخر. هذه خطيئة العولمة.
2- ما العمل؟ ماذا يمكننا أن نفعل؟ وبينما يكرر القادة في البلاد أنه علينا أن نكون قادرين على المنافسة، وعلينا أن نخفض من التقديمات في ميدان الصحة والتعليم والسياسات الاجتماعية، وبينما تراكم المصارف والمشاريع الكبيرة الأرباح القياسية على مر السنوات، علينا العمل لتحضير مبادرات التحرك.
– مقابل شعار الحكومات: عجز الميزانية صفر، لنطرح شعار: العجز صفر في الديمقراطية والحياة الاجتماعية والإنسانية.
– مقابل شعار الحكومات: عجز الميزانية صفر، لنطرح شعار: الفقر صفر.
– ثمة مطلب آخر يشق طريقه، إنه مطلب تحميل مسؤولية التدهور للمؤسسات الاقتصادية الدولية.
أمثلة في المبادرات والممارسات: ( التي وضعت في إطار مواجهة سلبيات و مخاطر العولمة)
ثمة الكثير مما يمكن فعله لتغيير مسار الأمور: تحركات صغيرة، تكبر شيئاً فشيئاً، وذلك على مستوى المحلة والمنطقة والوطن والعالم.
حول اتفاقيات التبادل الحر: لقد حصلت، في كل منطقة من العالم، الكثير من الممارسات لتعديل مجرى المفاوضات. ولم يكن ذلك من أجل العودة إلى الوضع الذي كان سائداً، ولا من أجل سياسة الحماية الضيقة، ولكن من أجل أن تتمكن جميع القوى من المساهمة في تحديد التبادل، ليكون أكثر توازناً وعدالة، وقادراً على تأمين الرفاه الاقتصادي، بدل أن يكون عاملاً على زيادة التفاوت والفقر.
وعلى مستوى البلدان الأميركية، ثمة شبكة للإعلام والتعبئة تنشأ وتتطور. وتعتبر شبكة (فرع) كيبك حول اندماج القارة (الأميركية) Réseau Québécois sur l’Intégration Continentale RQIC جزءاً منها. وهذه الشبكة هي من أنشط دعاة تأسيس محالفة اجتماعية على مستوى القارة الأميركية. وداخل هذه الشبكة تتم بلورة جملة من المطالب، حول الحقوق الإنسانية المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحقوق العمل والمرأة، وحقوق السكان الأصليين، وكذلك حماية البيئة. وذلك ليتم تأكيد هذه الحقوق المعترف بها والمنصوص عليها في اتفاقيات عالمية، وليعترف بصلاحيتها وبتعيين آليات تنفيذها، قبل العمل على توسيع وترسيخ التبادل الحر.
وفي دولة شياباس Chiapas في المكسيك، وبمناسبة تطبيق اتفاقية التبادل الحر في بلدان أميركا الشمالية ALENA في 1/1/1994، قام جيش التحرير الوطني الزاباتي Armée Zapatiste de Libération Nationale AZLN ، الذي يناضل من أجل الحقوق الجماعية للسكان الأصليين، بتظاهرة للمرة الأولى، معلناً عولمة كفاحه. وكثيراً ما تلجأ الحركة الزاباتية إلى استخدام الأنترنت وتكنولوجيا الاتصال العصرية لتعرف نفسها إلى العالم والحصول على المساندة والتضامن. كما كانت هذه الحركة مبادرة في حصول الكثير من التجمعات العالمية العاملة على بلورة البدائل من أجل عالم أفضل.
حول المناطق الحرة وتطور الشركات المتعددة الجنسية: قدر مكتب العمل الدولي، BIT في تقرير لعام 1998، عدد المأجورين العاملين في 845 منطقة حرة بحوالي 27 مليوناً. يشهر هذا التقرير بظروف العمل السائدة في هذه المناطق الحرة: أجور منخفضة، طول يوم العمل، غياب الشروط الصحية، أجور السكن المرتفعة. كما تناول التقرير بالنقد اللاذع معايير العمل والعلاقات المهنية السائدة في هذه المناطق الحرة.
حول برامج وسياسات إعادة الهيكلة: لقد سبق ورأينا أن هذه البرامج والسياسات، المفروضة أو المعتمدة طوعاً من الحكومات، بدل معالجة مشاكل الديون العامة التي زعمت العمل على حلها، كثيراً ما كانت لنتائجها آثار فاقمت من هذه المشاكل. لقد تم التشهير بهذه النتائج السلبية، كما تم اقتراح بدائل لها.
يزداد عدد المنظمات الوطنية والعالمية المطالبة بإلغاء ديون البلدان الأكثر فقراً. وجالت في العالم عريضة يوبيل العام 2000 مطالبة بالإلغاء التام لديون 42 بلداً الأكثر فقراً في العالم. وكان الهدف أن تُقدم هذه العريضة وعليها تواقيع الملايين، في قمة الثمانية الكبار في كولونيى في ألمانيا.
سببت إعادة الهيكلة تخفيضاً في السياسات الاجتماعية وإفقاراً للسكان. وهنا أيضاً تم تأسيس جبهات نضالية. ففي كيبك، وبمواجهة سياسة عجز الميزانية صفر، فإن الحركة الشعبية تطالب بأن تعتمد الحكومة بالأحرى سياسة الفقر صفر، وتسعى إلى مشروع قانون هدفه إلغاء الفقر. كما أننا نسعى إلى إطلاق سياساتنا الاجتماعية لرفع مستوى المعيشة.
وفي كثير من البلدان، عبرت التعبئة عن نفسها بتظاهرات في الشوارع لعدة مرات في السنوات الأخيرة. وكثيراً ما أدت هذه النضالات إلى الحد من الهجوم على الحقوق الاجتماعية.
وفي كيبك، في العام 1998، توصل المناضلون والمناضلات من الطلبة ومن الحركات المدنية المحلية إلى إقامة محالفة لمعارضة اتفاقية الاستثمار المتعددة الأطراف AMI، وللتشهير بغياب الشفافية في المفاوضات، ولتوعية السكان بمخاطر مثل هذه الاتفاقية. وشرعت هذه المحالفة بعملية سالامي SaLAMI التي تمخضت عن تظاهرة أيار 1998 التي أخرت انعقاد مؤتمر في فندق الشيراتون حيث ينعق مؤتمر مونريال العالمي الرابع حول عولمة الاقتصاد. لم يثبت هذا النمط من التعبئة ضرورة تضافر قوانا لتحسين مواجهة المشاكل المشتركة، فحسب، بل أثبت ايضاً أهمية ابتكار مقاومة جديدة، خاصة وأن اتفاقية الاستثمار المتعددة الأطراف لم تنته بعد، ولكنها انتقلت إلى منظمة التجارة العالمية OMC. فاليقظة مطلوبة.
تبين لنا هذه الأمثلة وكثير غيرها أن القوى الاجتماعية المعارضة للمصالح المهيمنة تمارس دورها. والتعبئة مستمرة سواء استهدفت المعارضة الجذرية، أو المطالبة بحقوق قديمة أو جديدة. ولكنه لا بد من توسيع أفق العمل لمواجهة ضخامة وسائل الرأسمالية الكبيرة.
ومن جهة أخرى، وبمواجهة الشركات المتعددة الجنسية التي تعمل على تعميق التناقض بين عاملات وعمال البلدان المختلفة، تقوم النقابات بوضع استراتجيات جديدة عالمية، كما كانت الحال عام 1995-96 عندما نسقت نقابة عمال بريدجستون/ فايرستون المضربة منذ عدة أشهر مع المضربين من نفس الشركة في الولايات المتحدة وافريقيا الجنوبية والفيليبين، وكذلك مع زملائهم الموظفين في نفس الشركة في 12 بلداً، بغية الوصول إلى تسوية مرضية.
ضرورة تعميم المعلومات: تطالعنا الصحف يومياً بتقارير متعلقة بالعولمة. وإذا شئنا التأثير في مجرى الأحداث لا بد لنا من تملك وسائل ذلك التأثير وتنمية حسنا النقدي. فعندما يعلن، مثلاً، عمدة بورك Bourque، عن شراكة محتملة بخصوص الماء، يجب أن نرى في ذلك الإعلان محاولة القيام بخصخصة ما. وعندما يدور الكلام عن اعتماد التكنولوجيا والعقلانية والدمج و…، علينا توقع صرفاً كثيفاً للعاملين في المجالات المعنية.
إن اللقاءات في جماعات صغيرة، على فنجان قهوة، في المقاهي والمنازل، للاستعلام وتبادل المعلومات وفهم ما يجري، إن كل ذلك يشكل خطوة أولى للخروج من الإحباط الذي تعاني منه، وهذا ما يجب الاعتراف به، الذي يطبع منذ سنوات حركتنا المناضلة.
إن على الأوساط المقاومة العودة للتركيز على انهيار ظروف المعيشة، على الحق بمداخيل كافية، بالتعليم، بالعناية الصحية الجيدة…، وهذا ما يشكل وسيلة أخرى للتأثير. وثمة عنصر مركزي لهذه الآلية في العمل يكمن في تطوير حركة نقابية عالمية تكون فعالة وديمقراطية. وفي نفس السياق، يساهم تبادل الخبرات والمبادرات في النضال السياسي والاجتماعي والاقتصادي، في عولمة تضامننا.
يشكل الحق بتملك الأرض، وبالحصول على المياه الصالحة للشرب، والحق بالتغذية والدفء والحق بمنزل لائق وملائم، حقوقاً عالمية.
وعليه يجب أن نعمل ليكون التضامن العالمي بمثابة أولوية في منظماتنا، كما علينا الاهتمام بحملات التضامن العالمية التي تخوضها المنظمات غير الحكومية والنقابية والشعبية.
علينا أيضاً على سبيل المثال: التدخل في الحياة اليومية كمستهلكين وعمال ومواطنين.علينا التدخل كي يحترم استثمار مواردنا بالذات معايير التنمية المستدامة والمسؤولة.
علينا التدخل بوجه تضخم الأرباح المصرفية غير الخاضعة لأي رقابة، بينما تتقلص فرص العمل، وتضعف الخدمات.
القيام جماعياً بالضغط على الحكومات لتستعيد امتيازات السيادة التي تخلت عنها في اتفاقيات التبادل الحر التي لا تخدم غي الرأسمالية الكبرى.
يجب الاهتمام أيضاً بمسألة المضاربات المالية العالمية والآثار البالغة الخطورة وغير القابلة للتعويض التي تستمر في خلقها في كل مكان. ويقترح البعض كعلاج لذلك وضع ضريبة Taxe Tobin، وهي ضريبة 1% على المبادلات المالية العالمية، وتسمح بجمع 166مليون دولاراً في السنة، أي ما يكفي للتخفيف بشكل فعلي من المشاكل المرتبطة بالفقر في العالم، هذا بينما يرى البعض الآخر هذا الإجراء غير مناسب.
فكر عالمياً ومارس محلياً: ثمة نوع من عولمة التضامن ينتظم على مستوى الكرة الأرضية، لا سيما بفضل الإنترنت. ثمة ورشات عمل كبيرة تتحرك، وفيها تشارك الحركة الكيبكية التقدمية:
– ورشة البحث في عالم المال لإعطاء أولوية للسياسي على الاقتصادي: متابعة التعبئة لمواجهة النسخة الجديدة لاتفاقية الاستثمار المتعددة الأطراف AMI، استمرار العمل لإلغاء ديون بلدان العالم الثالث، السعي لبلورة ميثاق حقوق وواجبات المستثمرين والمضاربين؛
– ورشة العمل والاستخدام المتمحورة حول الحق بالعمل وبالأمن الاجتماعي للجميع؛
– ورشة العمل ضد الخصخصة، لا سيما خصخصة الكهرباء والماء وغيرها من المشاريع والخدمات العامة؛
– ورشة البيئة للحفاظ على الموارد الطبيعية للأرض، فالعالم ملك لكل ساكنيه؛
– ورشة الإعلام للمحافظة على حق الجمهور بالإعلام وباستقلال وسائله؛
ويجب علينا أن ندرك أنه ليست هناك من أفعال صغيرة، فكل عمل مقاومة لهيمنة الرأسمال الكبير على حياتنا، على المستوى المحلي أو الوطني أو العالمي، يساهم في تقدم أعمال هذه الورشة أو تلك من ورشات العمل على مستوى العالم.
إن تضافر وتنسيق النضالات المتنوعة والمتعددة سيساهم في استعادة القدرة على بناء عالم متضامن قائم على التنمية المستدامة.
يبلغ عدد سكان الأرض اليوم حوالي ستة مليارات. حفنة منهم تستحوذ على الرأسمال الكبير، وتسعى إلى استعبادنا. فها نسمح بذلك؟