قوة العولمة

وعلى هذا الأساس فرض صندوق النقد الدولي والبنك الدولي عمليات إعادة الهيكلة التي بفضلها يضمنان حماية مصالح الرأسمال.

تنطوي برامج إعادة الهيكلة على العناصر الأساسية التالية:

–        تخفيض المصاريف الحكومية: وذلك بحجة مواجهة العجز، وهكذا تتعرض للتخفيض كل قطاعات النشاط الحكومي، لا سيما الصحة والتربية، والبرامج الاجتماعية، وهذا ما يؤدي إلى فقدان كثيف لفرص العمل.

–        إزالة العوائق أمام التجارة الدولية: إلغاء التعرفات الجمركية، منافسة السلع المستوردة للمنتوجات المحلية، ازدياد حالات الإفلاس.

–        اضطراب أسعار السلع والخدمات التي تطال اليد العاملة: التخلي عن سياسة دعم بعض السلع الأساسية (الخبز، الرز، المحروقات)، وهذا ما يؤدي إلى ارتفاع أسعارها، وبالتالي تدني سلم الأجور، وتكون المحصلة انخفاضاً حاداً في مستوى المعيشة.

–        خصخصة المؤسسات العامة: وهذا يعني بيعها في السوق العالمية. وبما أن عدة بلدان تعرض مؤسساتها العامة للبيع في نفس الآن فإن المؤسسات الأجنبية تشتريها بأسعار مخفضة؛ كما أن المبالغ الناجمة عن البيع تذهب إلى البلاد الغنية لتسديد فوائد الديون؛ وبذلك تُحرم فئات واسعة وطبقات اجتماعية بكاملها من عدة خدمات أساسية، ويفقد البلد السيطرة على قطاعات السياسة الاقتصادية.

–        دعم عمليات التصدير: إن سياسة تطوير الزراعات الأحادية المكثفة بشكل واسع (البن، القطن، الأناناس، الحبوب…) على حساب الزراعة المتنوعة من أجل السوق المحلية يجبر البلد على استيراد ما كان ينتجه سابقاً؛ وبما أن بلدان الشمال تتحكم بشبكة التسويق العالمية، وبما أن البلدان الفقيرة تعرض جميعها منتوجاتها المعدة للتصدير دفعة واحدة، تنهار الأسعار. وهكذا تستولي بلدان الشمال على الخضار والفاكهة الغريبة بأبخس الأثمان.

–        ارتفاع نسبة الفائدة: وتصبح القروض صعبة المنال على المؤسسات المحلية الصغيرة والمتوسطة، وعلى صغار الفلاحين؛ وبذلك تتجه المؤسسات المحلية إلى الإفلاس.

–        انهيار أسعار العملات: لا يؤدي هذا الإجراء بالضرورة إلى زيادة حجم التصدير (بحكم قلة تنوع المنتجات المعدة للتصدير)، ولكنه يؤدي حتماً إلى ارتفاع أسعار السلع المستوردة: الوقود، الأسمدة، الأدوية…

باختصار، ينخفض مستوى معيشة السكان في البلدان الفقيرة، وينخفض مردود الصادرات أو لا يرتفع، ويستمر الدوران في حلقة الدين المفرغة تأزماً، بينما تكون هذه البلدان الفقيرة لا تعمل على غير زيادة غنى البلدان الغنية.

إنها لمعروفة السياسات العزيزة على قلوب سياسيينا. وفي الحقيقة، حتى لو لم تكن حكوماتنا خاضعة مباشرة للبنك الدولي ولصندوق النقد الدولي، فإن ذلك لا يحول دون التزامها بتوجيهاتهما. ولأن بلداننا مدينة للمتمولين من القطاع الخاص الذين يلوحون براية خفض القروض، فإنها تتبنى طوعاً سياسات إعادة الهيكلة دونما حاجة إلى فرض ذلك عليها فرضاً.

إنهم يصفعوننا، بقولهم أن العولمة تقضي بأن نكون قادرين على المنافسة. وعليه تكون شعارات النظام العالمي الجديد: إعادة البناء، الاندماج، العقلنة، مواكبة العلوم الهندسية، المرونة، المنافسة. وهذا ما تكون ترجمته الملموسة: إقفال المصانع والمستشفيات، انهيار في الاستخدام، اتفاقيات التخفيض بالجملة، التهديد بنقل (أو نقل) المصانع نحو بلدان اليد العاملة فيها أرخص أجراً.

وهكذا تلتحق مشاكل العالم الثالث بالبلدان المصنعة: العجز صفر، تخفيض على كل المستويات، لا سيما في قطاع الصحة والتعليم والبرامج الاجتماعية (التأمين ضد البطالة، الضمان الاجتماعي،  السكن…)، تخفيض العاملين في القطاع العام (في كندا تم إلغاء ما لا يقل عن 60000 وظيفة في المؤسسات الفيدرالية  وعشرات الآلاف في المؤسسات المحلية، وهي تشمل قطاعات الصحة والتعليم)، تخفيض الرواتب في كل مستويات الوظيفة العامة المركزية والإقليمية والمحلية والبلدية.

وفي مطلع الثمانينات ارتفعت نسبة الفائدة إلى 21% مما ساهم في تضخم الديون الراهنة على حكوماتنا. هذه الديون تزيد في غنى الممولين وتمكن من إملاء السياسة الاقتصادية والاجتماعية للحكومات. وإذا كانت الفائدة الرسمية اليوم منخفضة، ولكن ضعف التضخم يجعل هذه الفوائد مرتفعة في الحقيقة.

في صيف العام 1998 اعتبر رئيس الوزراء الكندي جان كريتيان، دون إعلان صريح عن اغتباطه بانخاض قيمة الدولار الكندي، أن لهذا الانخفاض حسنات لأنه يمكن المصدرين من الحصول على المنتجات الكندية.

كما أن رياح اضطراب الأسعار والأجور تنفخ هنا أيضاً. ففي قمة مونريال في تشرين الأول من العام 1996 حول الاقتصاد والاستخدام، أعلن رئيس الوزراء لوسيان بوشار، تشكيل سكريتاريا مرتبطة مباشرة بمكتبه لإعادة النظر بسياسة الأجور والأسعار، وتعهد بتشكيل مجموعة استشارية تتكون غالبيتها العظمى من ممثلين لأوساط الأعمال، وعهد برئاسته إلى السيد برنار لو مير، رئيس مجلس الكاسكاد. وترك ذلك بالطبع ارتياحاً كبيراً في أوساط رجال المال والأعمال. وسلمت هذه المجموعة تقريرها لرئيس وزراء كيبك في 29 أيار 1998. وفي مطلع حزيران 1998، صرح السيد برنار لو مير، تعليقاً على ذلك بقوله: “إن حكومة كيبك تلتزم لحد كبير بالتوجهات المقترحة”. وعليه من الشرعي الخشية، بغياب معارضة اجتماعية واسعة، أن تعمد حكومة كيبك إلى ترجمة معظم مقترحات تقرير لو مير.

ثالثاً: نتائج عولمة الأسواق  

إن العولمة Mondialisation الراهنة للاقتصاد والتي نسميها أحياناً الكوكبة Globalisation لنميزها عن المراحل السابقة في الاندماج الاقتصادي، أدت إلى نتائج سلبية سواء على صعيد اقتصاد المجتمعات، أو ظروف الحياة، وحتى على أوساط الحياة نفسها.ومن بين هذه النتائج السلبية نطرح الخمس التالية.

        1- النمو بدون استخدام: إن واحدة من الخصائص الأكثر مفارقة للعولمة الراهنة تكمن في حقيقة أنها بدل أن تؤدي إلى زيادة الاستخدام فإنها ترتكز، على العكس، إلى تخفيض الاستخدام في القطاع العام والخاص على السواء.

منذ تطبيق اتفاقية التبادل الحر ALE في العام 1989، ثم اتفاقية التبادل الحر في بلدان أميركا الشمالية ALENA، تراجع الاستخدام بنسبة 15% في القطاعات التي لم يتناولها التبادل الحر، بالمقارنة مع انخفاض بنسبة 8% في القطاعات التي تناولها. وفي الحقيقة لم يكن من شأن الاتفاقية، في أفضل الحالات، غير المساهمة في إبطاء هبوط الاستخدام في القطاع الصناعي. بيد أننا نجد الأمر الأكثر مغزى في حالة كيبك التي شهدت في مجرى السنوات العشر الأخيرة نسبة بطالة مرتفعة بشكل فريد (أكثر من 11%)، مع انخفاض بلغ 9،9% في نهاية العام 1998.

ومما يدل على تفاقم الوضع الزيادة في عدد طالبي المساعدة الاجتماعية (595000 في العام 1991 و793000 في العام 1997)، وبلوغ الحد الأقصى للمأجورين عدد 2.7 مليون، والانخفاض الكبير في الانتساب للنقابات (من 48.5% عام 1991 إلى 40.3% عام 1997). تعني هذه العوامل أن الاستخدام المستحدث يتم غالباً في قطاعات غير مستقرة، وأنه مؤقت.

2- الإفقار: نشهد في الوقت الراهن بروز ظاهرة مزدوجة. هناك، من جهة أولى، اتساع الهوة بين البلدان الغنية والبلدان الفقيرة. وهناك، من جهة أخرى، اتساع الهوة بين الأغنياء والفقراء في جميع البلدان التي لا تحتاط بإجراءات خاصة لمواجهة مفاعيل هذا الإفقار.

ونشهد، فضلاً عن ذلك، بروز ظاهرة جديدة، نقصد بها الفقر المطلق. ولهذا الفقر المطلق جنس خاص به، لأن النسوة هن غالبية ضحاياه، وذلك سواء في المجتمعات الصناعية أو التقليدية.

3- الأزمات المالية: إن الأزمة الآسيوية وتلك التي تهدد أميركا اللاتينية مرتبطتان مباشرة بمظهر خاص من العولمة، المقصود عولمة الأسواق وخاصة عولمة الأسواق المالية والمضاربة. بدأت هذه الأزمة منذ العام 1997 بخروج كثيف للرساميل المحققة من أرباح المستثمرين العالميين بحثاً عن مناطق مردود أفضل، هو سريع التأثر بأي تقلبات. وهنا يجدر بنا القول أن تفكيك شتى أشكال السيطرة الوطنية على الحركة العالمية للرساميل، بضغط من صندوق النقد الدولي وبفعل اتفاقيات كاتفاقية التبادل الحر في بلدان أميركا الشمالية، شكل عاملاً مساعداً في عدم الاستقرار الذي خلقته الحركة الكثيفة للرساميل.

كان صندوق النقد الدولي الذي تظاهر بعدم ملاحظة الفساد والقمع اللذين اتصفت بهما “النمور” الآسيوية، يقدم هذه البلدان كنماذج يجدر الاقتداء بها. ويجبر نفس الصندوق اليوم هذه البلدان على اعتماد سياسات تقشف تعسفية، مما أدى إلى خلق الملايين الجدد من العاطلين عن العمل، وإلى التدهور السريع في مستوى معيشة السكان. ففي اندونيسيا، هذا البلد الذي يبلغ عدد سكانه حوالي 200 مليون نسمة، تراجع النشاط الاقتصادي بنسبة 15.5% ، في العام 1998.

أعقبت الأزمة الآسيوية لعام 1997 أزمات روسيا في العام 1998 والبرازيل وبلدان أخرى في أميركا اللاتينية في العام 1999. وفي كل هذه الحالات كانت وصفة صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية الخاصة هي نفسها: خصخصة القطاع العام للخدمات، تخفيض كبير في الميزانيات الاجتماعية، رفع نسبة الفائدة، تخفيض الأجور الفعلية. ونجم بالضرورة عن تطبيق هذه السياسات انفجار البطالة والبؤس والتوتر الاجتماعي. ولهذا السبب فإن المنظمات التقدمية في شتى القارات تطالب بضرورة إصلاح المؤسسات المالية الدولية (ومنها صندوق النقد الدولي)، والعودة إلى السيطرة الوطنية على التدفق الدولي للرساميل، ووضع ضريبة عالمية على المبادلات المالية العالمية (هي الضريبة المعروفة اليوم باسم ضريبة توبن Tobin).

4- تخريب البيئة: نشهد اليوم، بفعل تحرير الأسواق والمزاد العلني بين الحكومات لجذب الاستثمارات الأجنبية بأي ثمن، إفراطاً في استغلال الثروات الطبيعية القابلة للتجديد أم لا، كما نشهد تخريباً كثيفاً للبيئة.

إن لعولمة السواق انعكاسات سلبية هامة على البيئة. ذلك أن التجارة العالمية تؤدي إلى الإفراط في استغلال الطبيعة، وإلى استيلاد جيل جديد من النفايات من شتى الأصناف، وفقدان التنوع البيولوجي، واستهلاك متزايد للطاقة بحكم عمليات نقل الثروات والبضائع على مسافات بعيدة. وستتفاقم هذه السلبيات البيئية مع تسارع المبادرات إلى المزيد من تحرير التجارة الدولية. إن الإطار الراهن للتجارة والاستثمار العالميين لا يقدر الأكلاف البيئية في المبادلات العالمية. وتبق هذه الأكلاف خارج حساب كلفة الانتاج، بالتوافق بين المؤسسات والحكومات التي ترى في ذلك عاملاً تنافسياً. وينجم عن ذلك تسابقاً بين الدول نحو تحرير التعاطي مع القضايا البيئية ونحو التسامح (بل لنقل اللامبالاة) في تطبيق المعايير البيئية وآليات المراقبة البيئية.

تؤدي النتائج السلبية على البيئة، بالضرورة، إلى تخريب كبير لتراثنا الطبيعي، بفعل الإفراط في استغلاله، وإلى تزايد التلوث، وهذا ما يعني في النهاية خسارة مجالات الطبيعة وتهديداً مباشراً لصحة وبقاء أجيال البشرية الراهنة والمستقبلية. ويشكل جعل الأكلاف البيئية خارج كلفة الانتاج (وهذا ما يسمى dumping environnemental) مساعدة مقنعة للانتاج، وهو بالتالي فشل حتى من وجهة نظر التبادل الحر كما من وجهة نظر التنمية المستدامة.

ينطوي التنظيم الأفضل للتجارة وللاستثمارات العالمية على إمكان تخفيف، بل وتعويض، بعض الآثار الحتمية على البيئة، وكذلك تحاشي غيرها، وحتى الوصول إلى نتائج إيجابية. بيد أنه لا يمكن الوصول إلى أي نتائج جوهرية إلاّ إذا أصبحت قضية حماية البيئة بمثابة المبدأ الموجه الفعلي للاتفاقيات العالمية حول التجارة والاستثمار، وهذا ما يستلزم من ضمن ما يستلزمه:

– الاعتراف بأرجحية الاتفاقيات البيئية المتعددة الأطراف AEM على اتفاقيات التجارة والاستثمار، وكذلك الاعتراف بالحدود البيئية في التنمية الاقتصادية.

– إدراج آليات الحماية البيئية مباشرة في اتفاقيات التجارة والاستثمار، لا الاكتفاء باتفاقيات بيئية موازية.

– تبني معايير الحد الأدنى البيئية على المستوى الدولي، تلك المعايير التي تطبق على طرق الانتاج ووسائله، لا المنتجات فقط.

–        الاعتراف بدين بيئي تجاه بعض البلدان والمناطق، وتوفير المصادر لتأمين نقل الثروات والخدمات والتكنولوجيا البيئية، وكذلك التطبيق الفعلي للتشريعات البيئية الوطنية والعالمية في جميع البلدان، ولا سيما البلدان الأكثر فقراً.

           يجب أن تكون عولمة الأسواق مبررة بيئياً واجتماعياً قبل أن تكون مبررة اقتصادياً. ولبلوغ ذلك، يجب العودة، من بين أمور شتى، إلى استفتاء المواطنات والمواطنين، مباشرة وديمقراطياً، وكذلك استفتاء منظمات المجتمع المدني. تشكل هذه العملية مجمل المبررات قبل تعزيز عولمة الأسواق، وتشكل حينذاك جزءاً من عملية تقريرية شفافة.

           5- العسكرة: بعكس ما تروجه أحياناً النظرة المحابية لحرية السوق حول دور الأسواق السلمي، فإن توسع قانون العرض والطلب على كل قطاعات الاقتصاد والمجتمع لا يتم دون اللجوء إلى القوة والإكراه. وعليه ليس مستغرباً أن نرى المبالغ المخصصة للتسلح في ازدياد مستمر.

           يشكل الوضع الاقتصادي في أميركا اللاتينية بيئة فعلية ملائمة لظهور قادة شعبويين استبداديين، قريبين من الأوساط العسكرية، كما هي الحال في فينيزويلا والباراغواي والبيرو وبوليفيا.