أولاً: قوى العولمة:
(1) الشركات المتعددة الجنسية أو العابرة للقوميات، (2) المؤسسات الاقتصادية العالمية، (3) الحكومات، (4) الحركات الاجتماعية
الشركات المتعددة الجنسية أو العابرة للقوميات (multinationales, transnationales, CTN): لعل أهم ظاهرة شهدتها نهاية القرن هي ظاهرة تعدد قومية المؤسسات الاقتصادية الواحدة، أو انتشارها واشتغالها عبر قوميات متعددة. دفعت الشركات المتعددة القوميات بالخطوات الأساسية لنشوء العولمة، وذلك من خلال قيامها هي نفسها بعولمة عمليات انتاجها وتوزيعها. وفي سياق ذلك دفعت هذه الشركات بالحكومات إلى اعتماد قوانين وتشريعات هدفها جعل السوق هي المسؤولة عن انتاج وتوزيع الثروات العامة.
ثمة اليوم في العالم حوالي 40000 شركة متعددة الجنسية، منها 4000 آلاف فقط في البلدان الأقل تطوراً. ويفوق الوزن الاقتصادي لهذه الشركات وزن بعض البلدان المتطورة. ففي العام 1968كانت شركة جنرال موتورز (General Motors)، وهي في المرتبة 18، تفوق بقدرتها الاقتصادية ألمانيا الشرقية وبلجيكا وسويسرا. وفي العام 1982، كانت شركة كاناديان باسيفيك (Canadian Pacifique) تساوي نيوزيلندا بحجم أعمالها البالغ 12.3 مليار دولار. وفي العام 1993، كانت شركة إكسكون (Exxon)، بمبيعاتها السنوية البالغة 111 مليار دولار أميركي، تملك ثروة تعادل ثلاث أضعاف الناتج الخام لإيرلندا.
لا تقتصر أهمية هذه الشركات على وزنها الاقتصادي فحسب، بل تعود أهميتها أيضاً إلى وزنها السياسي. ويتعاظم بسرعة التدخل المباشر لمجموعات وجمعيات رجال المال والأعمال، كمستشارين، في المفاوضات التي تجري على المستوى الدولي والإقليمي. ويتجلى هذا الدور والتأثير في المؤسسات العالمية لرجال الأعمال، مثل غرفة التجارة العالمية، وفي المنظمات الإقليمية والمحلية. كما تظهر هذه الأهمية في المجموعات الضاغطة، ومراكز التوجيه الاقتصادي والسياسي: مؤسسات الإنتاج الفكري والدراسات والأبحاث…
المؤسسات الاقتصادية العالمية: تلعب بعض المؤسسات والمنظمات الاقتصادية العالمية والإقليمية دوراً كبيراً في مسار العولمة الراهنة. وهذا ما يطرح علينا إفراد موقع خاص بها في إطار فهم العولمة. ولفهم أهمية هذه المؤسسات لا بد لنا من وضع لائحة شاملة بها. يأتي في رأس هذه اللائحة بعض أكبر المنظمات الاقتصادية العالمية، مثل البنك الدولي لإعادة البناء والتنمية (Banque Internationale de Reconstruction et de Développement BIRD) وغيره من الأجهزة المعروفة باسم البنك الدولي (Banque Mondiale BM) وصندوق النقد الدولي (Fonds Monétaire International FMI)، وقد تأسس هذان الجهازان، في العام 1944، إثر مؤتمر بريتون وود (Bretton Woods)، وكذلك منظمة التجارة العالمية (Organisation Mondiale du Commerce OMC) التي تأسست عام 1994 لتحل مكان منظمة الغاة (GATT) التي نشأت عام 1944.
تأتي، بعد ذلك، منظمات اقتصادية إقليمية، يقتصر نشاط البعض منها على قارة معينة أو إقليم ما. مثل لجنة الأمم المتحدة الخاصة بأميركا اللاتينية والكاراييب (Commission pour l’Amérique Latine et la Caraїbe CEPALC) وبنك التنمية عبر أميركا (Banque Iteraméricaine de Développement BID) اللذان يلعبان كلاهما دوراً فاعلاً في عملية توحيد المناطق الأميركية.
أخيراً ثمة منظمات اقتصادية إقليمية تجمع بلداناً تتصف بتجاذبات اقتصادية موضوعية، على قاعدة القدرات الاقتصادية، كما هي حال منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية (Organisation de Coopération et de Développement Economique OCDE) التي تضم 29 عضواً منهم 27 من أكثر البلدان تطوراً، بالإضافة إلى تركيا والمكسيك. ويجب أن نضيف إلى ذلك مجموعة، هي ليست منظمة بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها تلعب دوراً محدداً في تعيين مسار اقتصاد سياسي مشترك بين المشاركين في مؤتمراتها السنوية، نقصد بذلك لقاءات السبعة الكبار (G-7)، أي مجموعة البلدان السبعة الأكثر تطوراً التي تضم أحياناً مندوباً عن الاتحاد الأوروبي والرئيس الروسي، وهذا ما يجعلها مجموعة الكبار السبعة + 2 (G-7 + 2)، وأحياناً الثمانية الكبار (G-8).
بالإضافة إلى هذه المنظمات الاقتصادية الطابع، ثمة سلة واسعة من المنظمات طابعها سياسي، وتلعب دوراً كبيراً في مسار العولمة. في طليعتها تلك المنظمة الكونية، منظمة الأمم المتحدة (Organisation des Nation Unies)، وجملة منظمات إقليمية مثل منظمة الدول الأميركية (Organisation des Etats Américains OEA). وثمة أيضاً أجهزة واسعة التأثير ليس لها سمات المنظمة، ولكنها عبارة عن ملتقيات دورية أو شبه دورية، مثل ملتقى دافوس.
الحكومات: من قوى العولمة الأساسية الحكومات (الدول، الأنظمة) التي تطبق السياسات الاقتصادية الكبرى المحددة، بشكل عام، داخل المؤسسات الاقتصادية الكبيرة التي تكون منضمة إليها، وحيث تمارس البلدان المتطورة دوراً راجحاً. قد تكون هذه الحكومات (الدول الأنظمة) من البلدان المتطورة فتطبق هذه السياسات العولمية طواعية أو برغبة منها؛ كذلك هي حال بعض البلدان غير المتطورة التي تسير على خطى الحكومات الأول، مثل تشيلي والمكسيك؛ كما تطبقها مرغمة الحكومات الأخرى.
بعض هذه السياسات الاقتصادية، مثل سياسات التجارة والاستثمار وإلغاء التعرفة الجمركية، تكون موضوع مفاوضات بين شركاء تفاضليين يوقعون اتفاقات تسمى “إقليمية” وتكون في حقيقتها اتفاقات بين بضعة دول. وهكذا افتتحت الولايات المتحدة هذا التوجه بتوقيع أول اتفاق ثنائي مع إسرائيل عام 1985، ثم أعقبه اتفاق ثنائي آخر مع كندا عام 1989، ثم اتفاق ثلاثي ضم المكسيك عام 1994، وعرف باسم اتفاق التبادل الحر بين بلدان أميركا الشمالية Accord de libre-échange nord-américain ALENA. وفي كانون الأول من نفس العام وجه البيت الأبيض دعوة لعقد القمة الأولى لرؤساء دول وحكومات البلدان الأميركية للشروع في محادثات لتأسيس منطقة للتبادل الحر في أميركا Zone de libre-échange des Amériques ZLEA ، تضم 34 شريكاً من الأميركيتين بدون كوبا، وذلك في اتفاقية مرشحة للتطببق في العام 2005، وهي باسم اتفاقية التبادل الحر في البلدان الأميركية Accord de libre-échange des Amériques ALEA .
تنطوي حالياً المفاوضات من أجل إقامة مناطق التبادل الحر على تنازلات من قبل الأطراف (الحكومات) دون وضع شعوب هذه البلدان في حقيقة الرهانات والنتائج المترتبة عليها. تشير هذه المسألة إلى ظاهرة خطرة في تقرير مصير الشعوب التي تعيش في ظل أنظمة حكم تسمي نفسها ديمقراطية.، بدأت هذه الظاهرة بالانتشار من البلدان الأميركية، حيث يتم ترويج هذه الاتفاقيات على أنها ديمقراطية لأن الحكومات تقرّها بعد جولات تفاوضية. ولكن هذه الديمقراطية هي مجرد “ديمقراطية بين الأجهزة التنفيذية” (الحكومات) التي تنتحل صفة تقريرية في منح امتيازات وتنازلات لا تراجع في تقريرها لا شعوبها ولا حتى السلطات التشريعية في بلادها.
وفي معظم الحالات لا تعلم السلطات التشريعية بغير نتائج المفاوضات وما ترتب عنها من تنازلات. فضلاً عن أن السلطات التشريعية غالباً ما تصدق على نصوص هذه الاتفاقيات كما هي وبعد إبرامها. وهذا ما يجعل كل سياق التفاوض وتصديق الاتفاقيات على درجة كبيرة من تراجع الحياة الديمقراطية. وأسطع برهان على تراجع الديمقراطية يبدو لنا في حقيقة أن الأحزاب السياسية التي تتخذ مواقف متناقضة من مسألة “التبادل الحر” تقوم الحكومات المنبثقة عنها بالسير على نفس خطى الحكومات السابقة، وهذا ما حصل في الولايات المتحدة الأميركية مع الديمقراطي كلنتون الذي اعتمد وتابع مشروع الجمهوري بوش؛ وكذلك كان الأمر في كندا حيث استأنف رئيس الوزراء كريتيان سياسة سلفه مولرونيه، وذلك بعد أن كان كريتيان رئيس المعارضة لسياسة سلفه. وما يشير بدرجة أوضح إلى تراجع الديمقراطية حقيقن أن الحكومات لم تعد تستند، في وجودها واستمرارها، إلى شعوبها وناخبيها، بقدر استنادها إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية أو الشركات العملاقة.
ولكن هذه الحالة في تعاظم العولمة وتراجع الديمقراطية استدعت، كرد فعل عليها، مبادرة اتخذتها الجمعية الوطنية في كيبك بدعوتها إلى عقد المؤتمر الأول لبرلمانيي البلدان الأميركية في العام 1997، بما في ذلك كوبا. وكان من أبرز موضوعات هذا اللقاء البرلماني هو دور البرلمانيين في مواجهة تعاظم الدمج الاقتصادي للقارة الأميركية، كما تمارسه الحكومات. وأدان البيان الختامي للقاء مسار هذا الدمج.
الحركات الاجتماعية: تأتي الحركات الاجتماعية بمثابة القوة الأخيرة من قوى العولمة. وإذا كانت هذه هي القوة الأضعف والأقل تأثيراً فهي القوة الأكثر عدداً. ونقصد بالحركات الاجتماعية تلك الجماعات والمنظمات والجمعيات التي ندخلها عادة تحت اسم منظمات المجتمع الأهلي، هذه العبارة الملتبسة التي بات متعارفاً أن القصد منها هو الاشارة إلى الأفراد والمنظمات النقابية والجمعيات الثقافية والبيئية وخلاف ذلك.
إن البعض من هذه الحركات الاجتماعية شرع منذ زمن طويل في مواجهة مسألة تجاوز اتفاقيات التبادل الحر لحقوق الشعوب والمجتمعات، وتعديها على السياسات المحلية وتدخلها في العلاقة بين مستويات السلطات وأجهزتها. وكانت النقابات في طليعة هذه الحركات الاجتماعية، ولعبت دوراً أساسياً مما اضطر الحكومات وبعض المنظمات الدولية إلى العودة والوقوف على رأيها في الكثير من المسائل.
لقد تعززت في السنوات الأخيرة الصلات الدولية بين هذه الحركات، وباتت أكثر تنظيماً، بغية تبادل المعلومات وصياغة مواقف مشتركة وتوحيد المطالب وبلورة استراتيجيات عمل موحدة. كما أن الاجتماعات الدولية التي يعقدها ممثلو الحكومات مع ممثلي الرأسمال العالمي الكبير لتقرير مصير الكرة الأرضية وشعوبها، باتت مترافقة أكثر فأكثر مع اجتماعات موازية يعقدها ممثلو المنظمات الشعبية والنقابية وحركات النساء وسائر المنظمات غير الحكومية وحركات حماية البيئة. وكان منها لقاء سانتياغو في تشيلي في نيسان 1998، بموازاة القمة الثانية لرؤساء دول وحكومات أميركا. ولقد أرست قمة شعوب أميركا أسس محالفة اجتماعية على مستوى القارة الأميركية.
ثانياً: أدوات العولمة:
(1) اتفاقيات التبادل الحر، (2) المناطق الحرة، (3) برامج إعادة الهيكلة
اتفاقيات التبادل الحر: في القارة الأميركية. بدأ العمل بهذه الاتفاقيات في القارة الأميركية. إن اتفاقية التبادل الحر ALE الثنائية، بين كندا والولايات المتحدة الأميركية، التي دخلت موضع التطبيق في 1/1/1989، هي التي أطلقت عملية الدمج الاقتصادي، كما هي معروفة اليوم، على مستوى البلدان الأميركية. وفيما بعد صارت الاتفاقية ثلاثية بدخول المكسيك في المفاوضات من أجل اتفاقية التبادل الحر في بلدان أميركا الشمالية ALENA، والتي وضعت موضع التنفيذ في 1/1/1994. وفي كانون الأول من نفس العام 1994، شرعت القمة الأولى لرؤساء الدول والحكومات الأميركية بمفاوضات غرضها إقامة منطقة التبادل الحر في البلدان الأميركية ZLEA، في العام 2005.
تمتاز هذه الاتفاقيات بجملة نقاط مشتركة. يتم التفاوض بشأنها في حلقات مقفلة بعيداً عن ضجيج المنتديات البرلمانية. وهي تلغي التعرفات الجمركية على الكثير من السلع، وتخفف من سياسة الحماية الاقتصادية للحكومات، وتكرس حقوقاً جديدة للمستثمرين، أسياد التجارة. إن هذه الحقوق الجديدة تبلغ حد انتهاك سيادة الدول، لأنها تسمح للمؤسسات المستثمرة بمقاضاة الحكومات وبالحصول على تعويضات إذا ما أقدمت الحكومات على وضع سياسة اقتصادية ترى مؤسسات الاستثمار أنها تضر بمصالحها. ولهذه الحقوق مظهر آخر غير مسبوق في وجوده، فهي تعمل لصالح جهة واحدة. إذ لا تستطيع الحكومات مقاضاة مؤسسات الاستثمار. الشركات المتعددة الجنسية بحل من أي ملاحقة ومعاقبة: إنها لا تقدم كشفاً بنشاطها لغير المساهمين وتهدف فقط إلى زيادة أرباحهم.
ارتفعت الأصوات بوجه هذه الاتفاقيات أثناء المفاوضات بشأنها. كانت معارضة الحركة النقابية الكندية والكيبكية، من ضمن المعارضين، صارمة بوجه اتفاقية التبادل الحر بمجملها. ولكن أمام الأمر الواقع اتجهت المعارضة وجهة المطالبة بإجراء تعديلات في مضمون الاتفاقية لتدخل فيها مسائل حقوق العاملات والعاملين والحقوق الإنسانية وحقوق النساء وحقوق السكان الأصليين وحماية البيئة، وذلك لتكون هذه الحقوق مساوية لحقوق المستثمرين.
وأثناء المفاوضات حول اتفاقية التبادل الحر في بلدان أميركا الشمالية ALENA، مع انضمام المكسيك إلى كندا والولايات المتحدة، أدت المعارضة الشعبية في هذه البلدان الثلاثة إلى وضع اتفاقيتين موازيتين لها ALENA. تناولت هاتان الاتفاقيتان موضوعي العمل والبيئة. وكانت بمثابة أولى الخطوات في الاتجاه السليم، ولكنهما كانتا رمزيتين أكثر مما هما اتفاقيتان بآليات تنفيذية جدية.
وعلى نفس خطى اتفاقياتي التبادل الحر فان المفاوضات من أجل إقامة منطقة التبادل الحر في البلدان الأميركية ZLEA كانت تستهدف بسط نفوذ الرأسمال الكبير على مجمل هذه البلدان. وفي غضون ذلك تم توقيع اتفاقيات ثنائية بين كثير من هذه البلدان، مثل كندا وتشيلي. كما أنه ثمة مجموعات من البلدان التي وقعت اتفاقيات لإقامة أسواق مشتركة مثل ميركوسور MERCOSUR مع دولتين شريكتين تشيلي وبوليفيا، أو تم إحياء اتفاقيات قديمة مثل معاهدة أندين Pacte ANDIN ، البيرو الاكوادور كولومبيا فينيزويلا بوليفيا. فهل تحضر هذه الاتفاقيات المجال لتطبيق منطقة التبادل الحر في البلدان الأميركية، أم تدفع بها لصالحها؟
المناطق الأخرى: وفي مناطق أخرى من العالم تم تطوير وتنظيم أشكال متنوعة في ترسيخ المبادلات. فإلى الشرق من أميركا، يضم الاتحاد الأوروبي Union Européenne UE 15 بلداً لها مؤسسات مشتركة لإدارة الاقتصاد والمجتمع. وهذه البلدان تعيد النظر دورياً باتفاقيات الوحدة الأوروبية، لجهة نوعية السيادة فيها، وطورت في ما بينها عملة مشتركة هي اليورو Euro . واستفت هذه البلدان شعوبها حول اتفاقية ماستريشت Traité de Maastricht . وهي تتفاوض من أجل التوفيق بين سياساتها الاجتماعية. ولا يتناول تحرير المبادلات في ما بينها السلع فحسب، بل يشمل الأشخاص والخدمات والرساميل.
وإلى الغرب من أميركا، تستمر المباحثات بين 18 بلداً على ضفاف المحيط الهادئ، من بينها كندا والولايات المتحدة والمكسيك وتشيلي، من جهة، والصين وتايوان واليابان وأستراليا وإندونيسيا وكوريا الجنوبية وغيرها، من جهة أخرى، وذلك في إطار ملتقى للتعاون الاقتصادي لبلدان آسيا والمحيط الهادئ المعروف بالإنكليزية APEC . وهنا أيضاً تلعب دوراً أساسياً التكتلات الكبيرة المنظمة في مجموعة رجال الأعمال المعروفة باسم Business Advisory Committee . وهنا أيضاً فإن القوى الاجتماعية حاضرة وتسعى لفرض نفسها كقوة مستقلة، ولفرض مطالبها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، كما تبين ذلك القضية التي عرفت “بقضية فلفل كايين” أثناء انعقاد قمة أبيك APEC ، في فانكوفر، في تشرين الثاني 1997.
التبادل الحر على المستوى الكوني: في الوقت الذي تستمر فيه المساعي لترسيخ التبادل الحر على المستوى الإقليمي، تنشط بعض نفس تلك الجهات في إعداد مرحلة اشمل لحرية التبادل. ويتم إعداد هذه المرحلة داخل منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية Organisation de Coopération et de développement Economique OCDE ، وذلك عبر مفاوضات أفضت إلى توقيع الاتفاقية المتعددة الأطراف حول الاستثمار Accord Multilatéral sur l’Investissement AMI . لقد دبر مفاوضو البلدان الأعضاء في منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية مشروع محالفة واستراتيجية يستهدفان اعتماد ميثاق فعلي لحقوق المستثمرين. ينطبق الميثاق بداية على البلدان الموقعة عليه، ثم على البلدان الأخرى غير الموقعة التي ستجبر يوماً ما على توقيعه. إن من شأن هذه الاتفاقية أن تحول دون قدرة أي حكومة على إعاقة حرية انتقال الرساميل، ولو كان ذلك بالرغم من أي التزامات قد تتخذها حكومة ما، ولو كان ذلك على الرغم من إرادة الشعوب، وعلى حساب مصالحها وثقافاتها وحقوقها الاجتماعية.
لقد تمت معرفة مضمون هذه الاتفاقية بصعوبة، وفقط بفضل تسريب خبرها تسريباً. ولكنها أثارت موجة من الاعتراضات ظهرت في كل مكان من بلدان منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية. ففي كيبك، مثلاً، انطلقت عملية سالامي SaLAMIلتعبئة الرأي العام.
يفاقم التبادل الحر من حدة المنافسة، ويؤدي إلى انقلابات عميقة، ذلك أن قوانين السوق التي يُزعم أنها تتيح توزيعاً أفضل للثروة تؤدي في الحقيقة إلى تغيير جذري في شروط العمل وفي السياسات الاجتماعية. ففي مطلع العام 1999 أعلنت بيل كندا عن مشروع بيعها للخدمات الهاتفية إلى مؤسسة أميركية حيث الأجور أقل بمرتين عن أجور العاملين في الهاتف والمنضمين للنقابة؛ يشكل هذا الإعلان مثلاً على المنافسة بين العاملات والعاملين في بلدان مختلفة. إن تخفيف السياسات الاجتماعية في كندا وفي كيبك يدل على المنافسة بين الدول. ففي ظل سيطرة قوانين السوق يسيطر القاسم المشترك الأصغر.
المناطق الحرة: لجأت عدة بلدان، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى استرتيجيات الحماية الاقتصادية للحد من تدفق المنتوجات المصنعة في الخارج بغية تشجيع التنمية المتمحورة على الداخل. بيد إنه منذ مطلع السبعينات، وبتحريض من استراتيجيات تنموية روجها اختصاصيون مثل رجل الأعمال روبرت مكنمارا، المدير السابق لشركة فورد موتور Ford Motor والمدير السابق للبنك الدولي BM، وبتحريض من صندوق النقد الدولي FMI أيضاً، لجأت بلدان العالم الثالث إلى التخلي عن القومية الاقتصادية، وغلى السعي للخروج من التخلف باعتماد سياسة تشجيع الاستيراد، أي بتشجيع الاندماج المتسارع في الاقتصاد العالمي.
ويرى المدافعون عن هذه الوجهة التنموية أن البلدان النامية تكبر فرصها في النجاح بقدر ما تترسخ فيها البنية التحتية الجاذبة للشركات المتعددة الجنسية. قد تتخذ هذه البنى التحتية شكل المناطق الحرة للتصنيع. والمنطقة الحرة هنا هي المنطقة التي يتم فيها تصنيع أو تحويل المواد المستوردة من الخارج بدون ضرائب، والتي تكون المواد المصنعة منها معدة للتصدير مباشرة. ويدعي البعض أن لهذه الستراتيجية نتائج إيجابية على الاقتصاد الوطني لأنها تفتح المجال للوصول إلى التكنولوجيا المتطورة.
لقد شجعت المنظمات المالية العالمية المؤسسات الخاصة، مثل مؤسسة فورد وبعض المصارف الخاصة، على إقامة المناطق الحرة في السبعينات. ودفعت هذه المؤسسات ببلدان العالم الثالث إلى استدانة القروض الضخمة لتأمين كلفة إقامة مثل هذه المناطق الحرة. وكان لا بد لهذه البلدان من إقامة الأبنية الضخمة وأبنية مصانع التجميع والمطارات وتمديدات الغاز والماء والكهرباء والمكاتب الحكومية والمخازن والطرقات… لجذب المستثمرين الصناعيين الأجانب. وليتم بعد ذلك تأجير هذه المنشآت بأسعار زهيدة للشركات المتعددة الجنسية بوصف ذلك من ضرورات خلق الأجواء الملائمة. وكانت النصائح تقضي، فضلاً عن ذلك، بتقديم تسهيلات مالية إضافية: الإعفاء من الضريبة لعدة سنوات، تسهيل انتقال الأرباح، اإفاءات الجمركية، التعرفة التفاضلية، تمويل وقروض لبناء هذه المناطق الحرة.
كانت حجة الإقناع لدى المقرضين كبيرة، ولهذا تكاثرت المناطق الحرة بسرعة هائلة. وكانت لها تسميات مختلفة باختلاف البلدان: مناطق تشجيع الاستثمار، مناطق الإعفاء الضريبي، مناطق التبادل الحر. ولا يتردد البعض عن القول في وصفها أنها معسكرات فعلية للعمل بالسخرة.
وبمقابل المكاسب التي حصلتها الشركات المتعددة الجنسية نجد العكس تماماً بالنسبة للعاملين في هذه المناطق، وكانت غالبيتهم من النساء اللواتي تتراوح أعمارهن بين 14 و24 سنة، وأحياناً أقل. وفي هذه المناطق لا يتم تطبيق قوانين العمل، فالقانون هو قانون الشركات المتعددة الجنسية. كما أن معايير الصحة والسلامة معدومة فيها عملياً، وكذلك معايير حماية البيئة. ولم يكن مسموحاً فيها بوجود النقابات المستقلة عن الدولة أو عن أرباب العمل. كما كان على النسوة أن تثبتن أنهن غير حوامل.
لم تنظر الشركات المتعددة الجنسية نشوء المناطق الحرة لتعمل على استثمار الموارد الطبيعية (المناجم، المنتجات الزراعية، الغابات) واليد العاملة بأرخص الأجور في بلدان العالم الثالث. بيد أن المناطق الحرة سرّعت نمو هذه الشركات، وتوسعاً في نشاطها وإعادة تموضع بعض شبكات الانتاج.
لقد استندت استراتيجية الجذب أو الحفاظ على الاستثمارات القائمة، في حالة كندا وكيبك، على الإعفاءات الضريبية والمساعدات من شتى الأصناف. لم يكن ينقص أوتاوا وكيبك لا الكرم ولا الخيال، وكانت الشركات المتعددة الجنسية المحلية (بومباردييه Bombardier، لافالين Lavalin) والأجنبية (كينوورث Kenworth، ج م GM، هيونداي Hyundai) تعرف بعض الشيء عن ذلك.
لقد سهل نمو المناطق الحرة نمو المؤسسات الأجنبية في شتى البلدان، وأعطى لهذه المؤسسات القدرة على المفاوضة من جديد. وهذه القدرة تستند إلى المنافسة بين عمال مختلف البلدان والتهديد الممكن، والذي غالباً ما تم تنفيذه، بنقل المصانع إلى حيث تكون الأجور أدنى. إن ممارسة هذه القدرة أدت إلى تخفيض شروط العمل إلى القاسم المشترك الأصغر.
برامج إعادة الهيكلة: وهكذا وجدت نفسها مثقلة بالديون تلك البلدان الفقيرة التي اعتمدت تنمية لاقتصادها الموجه نحو تشجيع التصدير وإقامة المناطق الحرة أو التخصص الزراعي. لقد استدانت هذه البلدان لتبني البنية التحتية بغية جذب الشركات المتعددة الجنسية، وعندما تدنت أسعار منتجاتها. لم يعد لديها المداخيل اللازمة لإيفاء الديون. وهكذا اضطرت هذه البلدان في مطلع الثمانينات إلى إعادة التفاوض حول ديونها، وإلى الحصول على قروض جديدة.