ــ
تناول مطران فى شعره العديد من القضايا والمواضيع. كتب الشعر فى الحب وفى معاناته فيه. وكتب فى الشعر القصصي. وتغنى بالطبيعة وبجمالها. لكن ما استقر فى شعره وأعطاه اسمه الكبير هو اهتمامه بقضية الحرية، وموقفه الثابت والصاخب ضد الطغيان وضد الطغاة. وقد أصدر الأديب اللبنانى رئيف خورى ديوان “الطغاة” الذى يضم عدداً من قصائد مطران، التى يعلن فيها ثورته ضد طغاة عصره وطغاة العصور السالفة. أصدر رئيف خورى هذا الديوان فى عام 1949، العام الذى كان قد غادر فيه مطران الحياة. ويقول خورى إنه نفذ، بإصدار ديوان «الطغاة»، ما كان قد خطط له مطران ولم يتمكن من تحقيقه. يقول رئيف خورى فى مقدمة الديوان: «.. وإنما كان حظاً للشعر العربى أن مطراناً عمد إلى هذه الوسيلة التاريخية يشجب بها الطغاة والطغيان فى العصور. فقصائده فى هذا المجال أجود شعره صورة وفكرة وعاطفة ومساق حكاية. جمعناها فى هذا السفر تتميماً لرغبة سمعها كاتب هذه السطور من الشاعر نفسه فى بحمدون صيف زيارته لبنان آخر مرة. فلقد أعرب الخليل يومئذ عن نيته إخراج مثل هذه المجموعة بعنوان «الطغاة». ثم لم نعلم إذا كان قد أعدّها وتركها مخطوطاً بين أوراقه، أم شغلته المشاغل، فجاء عملنا نحن وفاء لإرادة من إراداته، لا ندري- ولن ندري- مدى رضاه عنه بعد أن أصبح فى ذمة التراب وذمم الأجيال اللاحقة”. وقد قدم خورى لكل قصيدة من قصائد الديوان معلومات يشرح فيها الظروف التى أملت على الشاعر كتابتها، أو ما كان يتصوره ويتخيله خورى من تلك الظروف. لنقرأ بعض نثرات من بعض تلك القصائد. يقول مطران فى قصيدته “الأهرام”:
شاد فأعلى وبنى فوطدا
لا للعلى ولا له بل للعدي
مستعبد أمته فى يومه مستعبد بنيه للعادى غدا
إنى أرى عد الرمال ههنا خلائقاً تكثر أن تُعـدَدَا
صفرَ الوجوه نادياً جبالهم كالكلأ اليابس يعلوه الندي
محنية ظهورهم خرس الخطى كالنمل دب مستكيناً مخْلِدا
مجتمعين أنحراً منـفـرعـى ــــن أنـهـرا منحدرين صعّدا
أكلّ هذى الأنفس الهلكى غداً لفانٍ جَدَثا مُخَـلـدا
ويقول فى قصيدته الشهيرة “مقتل بزجمهر”:
سجدوا لكسرى إذ بدا إجلالا كسجودهم للشمس إذ تتلالا
يا أمة الفرس الأسود على العدي
ماذا أحالك فى السلام سخالا
كنتم كباراً فى الحروب أعزة
واليوم بتم صاغرين ضئالا
عبّاد كسرى مانحيه نفوسكم
ورقابكم والعِرض والأموالا
تستقبلون نعاله بوجوهكم
وتعفرون أذلة أوكالا
التبر كسرى وحده فى فارس
ويعُد أمة فارس أرذالا
شر العيال عليهم وأعقهم
لهم ويزعمهم عليه عيالا
إن يؤتهم فضلا يمُنّ وإن يرم
ثأراً يبِدْهم بالعدو قتالا
وإذا قضى يوماً قضاءً عادلاً
ضرب الأنام بعدله الأمثالا
وينهى القصيدة بالبيت الشهير فيها:
ما كانت الحسناء ترفع سترها
لو أن فى هذى الجموع رجالا
ويقول فى قصيدة “نيرون”:
ذلك الشعب الذى آتاه نصراً
هو بالسُبة من “نيرون” أحري
أيّ شيء كان “نيرون” الذى عبدوه؟
كان فظ الطبع غرّا
بارز الصدغين رهلاً بادناً
ليس بالأتلع يمشى مسبطرّا
خائب الهمة خوّار الحشي
إن يواقف لحظه باللحظ فرّا
قزْمة هم نصبوه عالياً
وجثَوا بين يديه فاشمخرّا
ضخموه وأطـالــوا فيئـه
فترامى يملأ الآفاق فجرا
منحوه من قواهم ما به
صار طاغوتاً عليهم أو أضرّا
يكثر الإعصار هدماً وردًي
إن يكاثره وما أوهاه صدرا
ـــ
لم يكد خليل مطران يبلغ الذروة فى عالم الشعر حتى برزت كل مواهبه. وبرزت معها كل صفات الإنسان الحقيقى فيه. فإذا كان قد عرف بثورته وبتمرده منذ شبابه الباكر، وعرف بحبه للحرية، وبنقمته على الطغاة، فإنه كان، فى الوقت ذاته، صاحب مزاج، وصاحب مشاعر إنسانية، وصاحب مغامرات عاطفية. كما كانت له صداقات وعداوات فى عالم الأدب وفى عالم الشعر. ورغم أنه كان صاحب رأى فى الوطنية وفى الحرية، فإنه لم يمارس السياسة، ولم يتخذ له موقعاً فيها.
تعددت فى الحب مغامراته، منذ الطفولة. لكن مغامراته الأساسية كانت فى المرحلة التى كان قد صار فيها شاعراً مرموقاً. وكانت الأديبة اللبنانية مى زيادة واحدة ممن توله بها، أسوة بآخرين من كبار أدباء مصر ولبنان، الذين سبقوه ورافقوه فى التعلق بها. وكان من بين هؤلاء جبران خليل جبران وعباس محمود العقاد. وله فى الحب قصائد عديدة نقتطف منها بعض الأبيات المتفرقة. يقول فى واحدة من هذه القصائد مخاطباً حبيبته الأولى أيام الطفولة:
هل تذكرين، ونحن طفلان عهداً بزحلة ذكره غنم
إذ يلتقى فى الكرم ظلان يتضاحكان وتأنس الكرم؟
هل تذكرين بلاءنا الحسنا حين اقتطاف أطايب العنب
نعطى ابتسامات بها ثمنا وبنا كنشوتها من الطرب؟
ويقول فى “الحب السرمدي”، حبه لفتاة نمساوية:
حبٌّت نسـاءٌ ولـكـــن كما حببتك لا لا
وقفت كل حيـاتـــى عليك وقفاً حلالا
مرت علاقة مطران بأحمد شوقى وحافظ ابراهيم، بفترات ود وجفاء. لكن عباس محمود العقاد يقول فى وصف هذه العلاقة بين الثلاثة
إنها كانت علاقة زمالة، ولم تتخذ طابع صداقة.
كان خليل مطران بحق شاعر القطرين، اللبنانى والمصري. أحب مصر وعاش فيها معظم حياته. لكن حبه لوطنه لبنان ظل هو الأصل بالنسبة إليه. ورغم حفلات التكريم التى أقيمت له فى مصر، وكان واحداً منها برعاية الملك فاروق الذى منحه لقب بك، فإن الحكومة المصرية لم تعطه موقعاً فى مؤسساتها التعليمية والأدبية، رغم أنه ورث رئاسة جمعية «أبولو» الشعرية من أحمد شوقي. وتابع، من موقعه فى رئاسة تلك الجمعية، اهتمامه بكل ما يتصل بتطوير الشعر وبرفع شأن الشعراء.
واصل مطران زيارة لبنان، على امتداد حياته فى مصر، لا سيما لقضاء فصل الصيف فى ربوع وطنه. وقد أقيمت له حفلات تكريم عديدة، شارك فيها كبار أدباء لبنان. وحين اشتدت عليه بعض الأمراض التى كان يعانى منها، شعر بدنو أجله. فوضع وصية يطلب فيها دفنه فى مسقط رأسه “بعلبك”. وغادر الحياة فى عام 1949. ودفن، وفق وصيته فى بعلبك. وأقيم له فى عام 1966 نصب تذكارى بالقرب من قلعة بعلبك التاريخية، التى كان قد نظم فى تمجيدها عدداً من قصائده الخالدة. ويقول مطران فى إحدى قصائده الأخيرة قبل الرحيل، فيما يشبه الوداع:
ماذا يريد الشعر مني؟ أخنى عليه علوّ سني
هل كان ما ذهبت به الـ أيام من أدبى وفني
أحسنت ظني، والليـا لى لم توافق حسن ظني
ورجعت من سوق عرضـ ت بضاعتى فيها بغبن
أفكان ذلك ذنبها أم كان ذنبي؟ لا تسلني!
لكن لخليل مطران جوانب أخرى فى حياته وفى نشاطه الثقافى والأدبى كان أبرزها اهتمامه بترجمة الكتب فى التاريخ والاقتصاد والتربية. فضلاً عن ترجمته لقصائد من الشعر الفرنسى ولعدد من الأعمال المسرحية. ويعتبر كتاب «مرآة الأيام فى ملخص التاريخ العام» من أهم ترجماته فى مجال التاريخ. يتناول المتاب صفحات من تاريخ اليونان والرومان وتاريخ القرون الوسطى وتاريخ مصر والهند وفينيقيا وتاريخ العرب وتاريخ الحروب الصليبة ومعظم الحضارات وصولاً إلى مطالع القرن العشرين.
أما فى المسرح، فقد ترجم بطلب من المسرحى اللبنانى المصرى جورج أبيض العائد من باريس عدداً من مسرحيات شكسبير تعرضت للنقد لأنه لم يترجمها عن لغة شكسبير الانكليزية. إلا أن اهتمامه بالمسرح تضاعف فى فترة ترؤسه الفرقة القومية المصرية للتمثيل.
كتب الكثير عن خليل جبران فى حياته وبعد وفاته. لكننى أحيل القارئ إلى ثلاثة كتب تناول مؤلفوها سيرة خليل مطران فى الجوانب المختلفة من حياته ومن نشاطه الثقافى.. وهى كتاب جميل جبر «خليل مطران»، الذى صدر فى سلسلة أعلام الأدب والشعر تحت اسم «ما قل ودل»، وفى كتاب أحمد درويش «خليل مطران»، الصادر من ضمن سلسلة مشاهير الشعراء العرب، وفى كتاب منير عشقوتى “خليل مطران” الصادر ضمن سلسلة شعراء لبنان. فى هذه الكتب الثلاثة الكثير من الحديث السمات الأساسية لشعر خليل مطران. وهى كتب تشكل مرجعاً مهماً إلى جانب مراجع أخرى تقوم الكثير والأساسى عن سيرة مطران لمن يريد المزيد من المعرفة عن هذا الشاعر الكبير، سيرة شخصية وسيرة شعرية ومواقف وآراء فى كل شؤون الحياة.