المكر والشعر

وأيقن الناسُ أنَّ زارعـهـا

بالمكر في قلبه سيحصدها

يشير إلى أن هذه الضربة أتته مماكرةً لا مجاهرةً ومعنى زارعها أن الضارب أودع قلبه من الغم بذرا وحصده إياها أخذه جزاءَ ذلك يقول علم الناس يقينا أن الذي ماكره بهذه الضربة زارعٌ سيحصد ما زرع أي يجازيه الممدوح جزاءَ ما فعل ويجوز أن تعود الكناية في قلبه على الزارع والمعنى سيحصد ما فعل في قلبه وتقديره إن زارعها في قلبه بالمكر أي أنه يجازيه بما فعل ضربةً في قلبه بقتله بها والضربة في القلب لا تخطىء القتل وفي على هذا من صلة الحصد ويجوز أن يكون من صلة المكر والمعنى أن زارعها بالمكر الذي أضمره في قلب نفسه.

أصبح حسادهُ وانفسـهـمْ

يحدرها خوفه ويصعدها

الواو في وأنفسهم واو الحال يقول أصبح حساده وحال أنفسهم أن خوفه يهبطهم ويصعدهم أي أقلقهم خوفه حتى أقامهم وأقعدهم وحدرهم وأصعدهم فلا يستقرون خوفا منه وهذا كما قال: أبدى العداةُ بك السرور كأنهم، فرحوا وعندهم المقيم المقعدُ، ويقال حدرت الشيء ضد أصعدته وأحدرته لغةٌ.

تبكى على الأنصل الغمودُ إذا

أنذرهـا أنـه يجـردهـا

يقول إذا أنذر العمود بتجريد السيوف بكت عليها لما ذكر فيما بعده وهو قول:

لعلمها أنها تصـير دمـاً

وأنه في الرقاب يغمدها

أي لعلم الغمود أنه يغمد السيوف في دماء الأعداء حتى تتلطخ بها وتصير كأنها دم لخفاء لونها بلون الدم وأنه يتخذ لها أغماداً من رقاب الأعداء أي أنها لا تعود إلى الغمود فلذلك تبكي عليها وهذا المعنى منقول من قول عنترة، وما يدري جرية أن نبلي، يكون جفيرها البطل النجيد، ومثل هذا في قول حسان، ونحن إذا ما عصتنا السيوف، جعلنا الجماجم أغمادها، وقول الجماني، منابرهن بطون الأكف، وأغمادهن رؤوس الملوك، ويقول ابن الرومي، كفى من العزِّ أن هزوا مناصلهم، فلم يكن غير هام الصيد أجفانا،

أطلقها فالعدو من جزعٍ

يذمها والصديق يحمدها

اطلق الأنصل من الغمود فذمها العدو خوفا وجزعا منها وحمدها الصديق لحسن بلائها على العدو.

تنقد النارُ من مضـاربـهـا

وصب ماءِ الرقاب يخمدها

أي أنها تصير إلى الأرض لشدة الضرب فتوري النار ويخمدها ما ينصب من الدماء عليها

إذا أضلَّ الهمامُ مهجتـه

يوماً فأطرافهن منشدُها

معنى اضلال الهمام المهجة أن يقتل ولا يدري قاتله أي إنما تطلب مهجته من أطراف سيوفه لانها قواتل الملوك والمنشد موضع الطلب ويروي تنشدها أي أنها تطلب ثأر الملوك ويروى تنشدها والانشاد تعريف الضالة أي أن أطرافهن تعرفها وتقول عندي مهجةٌ فمن صاحبها ويروي فأطرافهن بالنصب وينشدها بالياء يعني الهمام يطلب مهجته في أطرافهن ونصب أطرافهن ينشد مؤخراً كما تقول زيدا ضربته

قد أجمعت هذه الخليقة لي

أنك يا ابن النبي أوحدها

يقول اجمعت هذه الخليقة موافقةً لي أنك أوحدهم ويجوز أن يكون على التقديم والتأخير أي أوحدها لي أي أوحدها إحساناً إليّ وإفضالا عليّ ولا يكون في هذا كثير مدح ويجوز أن يكون المعنى أجمعت فقالت لي والقول يضمر كثيرا في الكلام والاول أوجه

وأنك بالأمس كنتَ محتلما

شيخ معدٍّ وأنتَ أمردها

يريد أنك بالتشديد فخفف مع المضمر ضرورةً كما قال آخر، فلو أنك في يوم الرخاء سألتني، فراقك لم أبخل وأنتِ صديق، وإنما يحسن التخفيف مع المظهر كقول الشاعر، وصدرٍ مشرقِ النحرِ، كأن ثدييه حقانِ، لان الإضمار يرد الأشياء إلى أصولها ويروى وأنت بالأمس على استئناف الكلام يقول بالأمس كنت في حال احتلامك ومرودتك شيخ معدّ فكيف بك اليوم مع علو السن وهذا في ضمن الكلام وفحوى الخطاب والواو في وأنت أمردها عطف على الحال يقول كنت شيخ معدّ محتلما.

وكم وكم نعمةٍ مجـلـلةٍ

ربيتها كان منك مولدها

الوجه أنه أراد بكم الخبر عن كثرة ما له من النعم عنده وإن أراد الاستفهام لم يجز في نعمة إلا النصب والمجللة المعظمة ومعنى ربيتها حافزت عليها بأن قرنتها بأمثالها وكان منك ابتداءها أي أنت ابتدأتني بالصنيعة ثم ربيتها ولم تكن واحدةً تنسَى على طول العهد.

وكم وكم حاجةٍ سمحت لها

أقرب منيّ إليّ موعدها

سمحت بها أي بقضائها فحذف المضاف والمعنى قضيتها لي وكذلك قوله موعدها أي موعد قضائها وهذا اخبارٌ عن قصر الوعد وقربه من الإنجاز ولا شيءَ أقربُ إليك منك وإذا قرب موعد الانجاز صارت الحاجةُ مقضيةً عن قريب.

ومكرماتٍ مشت على قدمِ ال

بر إلي منزلي تـرددهـا

المكرمة ما يكرم به الإنسان من برّ ولطف واراد بها ههنا ثياباً أنفذها إليها لقوله أقر جلدي بها ومعنى على قدم البرّ أن حاملها إليه كان من جملة الهدية والبر ويجوز أن يريد مكرمات على أثر بر سابق ومعنى ترددها أي تعيدها إليّ وتكرّرها عليّ ويروي تردُّدها على المصدر

أقرَّ جلدي بها علـيّ فـلا

أقدرُ حتّى المماتِ أمجدُها

اقرار الجلد بظهور ما عليه من الخلع واللباس للناظرين فكأنه باكتسائه بها ناطق مقرّ كما قال الناشىء الأكبر، ولو لم يبح بالشكرِ لفظي لخبرت، يميني بما أوليتني وشماليا،

فعد بها لا عدمتـهـا أبـداً

خيرُ صِلاتِ الكريم أعودها

يقول أعد هذه المكرمات فإن خير ما وصل به الكريم أكثره عودا وقيل له وهو في المكتب ما أحسن هذه الوفرة فقال:

لا تحسن الوفرةُ حتى تـرى

منشورةَ الضفرين يومَ القتال

الناس يروون الشعرة والصحيح رواية من روى لا تحسن الوفرة هي الشعر التام على الرأس والضفر معناه الشدّ ويسمَى ما يشدّ على الرأس من الذوائب الضفائر ومن سماها الضفر فقد سمى بالمصدر يقول إنما يحسن الشعر يوم القتال إذا نشرت ذوائبه ويعني بهذا أنه شجاع صاحب حروب يستحسن شعره إذا انتشر على ظهره يوم القتال وكانوا يفعلون ذلك تهويلا للعدو.

على فتًى معتقلٍ صـعـدةً

يعلها من كل وافي السبال

يقال اعتقل الرمح وتنكب القوس وتقلد السيف إذا حمد كلا منها حمل مثلها والصعدة الرمح القصير ومعنى يعلها يسقيها الدم مرةً بعد أخرى من كل رجل تام السبلة وهي ما استرسل من مقدم اللحية يقول إنما يحسن شعري إذا كنت على هذه الحالة.
وقال في صباه وقد مر برجلين قد قتلا جرذا وابرزاه يعجبان الناس من كبره

لقد أصبح الجرذُ المستغـيرُ

أسير المنايا صريع العطب

المستغير الذي يطلب الغارة على ما في البيوت من المطعوم يقول أسرته المنايا وصرعه العطب والهلاك والجرذ جنس من الفأر.

رماهُ الكنانيُّ والعامـريُّ

وتلاهُ للوجه فعل العربْ

يقول رمى الجرذ حتى صاده هذان الرجلان اللذان احدهما من بني كنانة والآخر من بني عامر وصرعاه لوجهه كما تفعل العرب بالقتيل.

كلا الرجلينِ أتلى قتلهُ

فأيكما غل حر السلب

يقول كلاهما تولى قتله أي اشتركتما في قتله فإيكما انفرج بسلبه وهو ما يسلب من ثياب المقتول وسلاحه وحرّة جيدة وغل أي خان وكل هذا استهزاءٌ بهما وكذلك قوله:

وأيكما كان من خلـفِـهِ

فإنّ به عضةً في الذنبْ

وقال أيضا في صباه يهجو القاضي الذهبي

لما نسبت فكنت ابنـاً لـغـير أبِ

ثمَّ اختبرت فلم ترجع إلـى أدبِ

سميت بالذهبي الـيوم تـسـمـيةً

مشتقةً من ذهاب العقل لا الذهب

هذا البيت جواب لما في البيت الأول يقول لما لم يعرف لك أبٌ ولم يكن لك أدبٌ تعرف به سميت اليوم بالذهبي أي أن هذه النسبة مستحدثةٌ لك ليست بمورثةٍ واشتقاقها من ذهاب العقل لا من الذهب أي إنما قيل لك الذهبي لذهاب عقلك لا لأنك منسوبِ إلى الذهب.

ملقبٌ بك ما لقـبـتَ ويك بـه

يا أيها اللقبُ الملقى على اللقب

يقول ما لقبت به ملقبٌ بك أي أنت شين لقبك وأنت بنفسك عارٌ له فلقبك ملقًى على لقبٍ أي على عارٍ وخزيٍ ويقال ويلك وويبك ثم يخفف فيقال ويك ومثل هذا الكلام لا يستحسن ولا يستحق التفسير ولا يساوي الشرح ولو طرح أبو الطيب المتنبي شعر صباه من ديوانه كان أولى به وأكثر الناس لم يرو هاتين القطعتين.
وقال أيضا يمدح إنسانا وأراد أن يستكشفه عن مذهبه

كُفّي أراني ويكِ لومكِ ألوما

هم أقام على فوادٍ أنجمـا

يقول للعاذلة كفّي واتركي عذلي فقد أراني لومك ابلغ تأثيرا وأشد على هم مقيم على فواد راحل ذاهب مع الحبيب وذلك أن المحزون لا يطيق استماع الملام فهو يقول لومك اوجع في هذه الحالة فكفى ودعي اللوم وقال ابن جنى يقول أراني هذا الهم لومك أياي أحق بأن يلام منى وعلى ما قال الوم مبنى من الملوم وأفعل لا يبني من المفعول إلا شاذا وقال قوم الوم مع المليم وهو الذي استحق اللوم يقول لها اللهم أراني لومك ابلغ في الالامة واستحقاق اللوم وهذا في الشذوذ كما ذكره ابن جنى ويقال انجمت السماء إذا اقلعت عن المطر وانجم المطر أي أمسك ولا يقال أنجم الفواد ولا فواد مندم ولكنّه استعمله في مقابلة أقام على الصد ومعنى أراني عرفني واعلمني.