صار اليقين

وخيال جسمٍ لم يخل له الهوى

لحماً فيخله السقام ولا دما

نكر لجسمه الخيال ليدل به على دقته ونحوله فإن الخيال اسم لما يتخيل لك لا عن حقيقة وهو عطف على الهم في البيت الأول يقول لم يترك الهوى بجسمي محلا للسقم من لحم ودم فيعمل فيه.

وخفوق قلبٍ لو رأيت لهيبه

يا جنتي لظننت فيه جهنما

الخفوق والخفقان اضطراب القلب واللهيب ما التهب من النار ويريد بلهيب قلبه ما فيه من حرارة الشوق والوجد وعنى بالجنة الحبيبة يقول لها لو رأيت ما في قلبي من حر الشوق والوجد لظننت أن جهنم في قلبي وانتقل من خطاب العاذلة إلى خطاب الحبيبة والقصة واحدة وإن أراد بالعاذلة الحبيبة لم يكن انتقالا ولكن الحبيبة لا تعذل على الهوى ألا ترى إلى قول البحتري، عذلتنا في عشقها أم عمرو، هل سمعتم بالعاذل المعشوقِ،

وإذا سحابة صد حبٍ أبرقـت

تركت حلاوة كل حبٍ علقما

استعار للصدود سحابا يقول إذا ظهرت مخائل الصدود زالت حلاوة الحب فصارت علقما وهو شجر مر يقال هو شجر الحنظل وأبرقت السحابة أظهرت برقها.

يا وجه داهـية الـذي لـولاك مـا

أكل الضنا جسدي ورض الأعظما

قال ابن جنى داهية اسم التي شبب بها وقال ابن فورجة ليست باسم علمٍ لها ولكن كنى بها عن اسمها على سبيل التضجر لعظيم ما حل به من بلائها أي انها لم تكن إلا داهيةً على والوجه قول ابن جنى لتركك صرفها في البيت ولو لم تكن علما لكان الوجه صرفها يقول لوجه الحبيبة لولاك ما تسلط الهزال على جسدي وما دق عظمي والرض الدق والكسر ورضاض كل شيءٍ دقاقه والمعنى ما ضعفت حتى كأني كسرتْ عظامي

إن كان أغناها السلو فإنـنـي

أمسيتُ من كبدي ومنها معدما

يقول أن كان السلو أغناها عني فليست تحتاج إلى وصلي فإني قد عدمتها وعدمت كبدي لأن هواها أحرقها فأنا معدم منها ومن الكبد أي أنها سالية عني وأنا فقير إليها وروي ابن جنى مصرما قال وهو كالمعسر والعرب تقول كلا ينجع منه كبد المصرم يقول إذا رآه المصرم وهو الذي لا مال له حزن أن لا يكون له مال فيرعاه فاوجعته كبده.

غصنٌ على نقوى فلاةٍ نابـتٌ

شمسُ النهارِ تقل ليلا مظلما

يصف الحبيبة يقول هي غصن يعني قامتها نابت على رملي فلاة يعني ردفيها والنقا الرمل يثني على نقوين ووجهها شمس النهار تحمل من شعرها ليلا مظلما والاقلال حمل الشيء يقال أقل الشيء إذا حمله.

لم تجمع الأضدادُ في متشابهٍ

إلا لتجعلني لغرمي مغنما

يعني بالاضداد ما ذكر من دقة قامتها وثقل ردفيها وبياض وجهها وسواد شعرها وهي على تضادها مجموعة متشابهة الحسن يقول لم تجمع هذه الاوصاف المتضادة في شخصٍ تماثل حسنه إلا لتجعلني هذه الاضداد غنما لغرمي أي لما لزمني من عشقها وهواها والمعنى إلا لتستعبدني وترتهن قلبي ويروى لم تجمع الاضداد على اسناد الفعل إلى الحبيبة.

كصفاتِ أوحدنا أبي الفضل التي

بهرت فانطق واصفيهِ فافحما

شبه الاضداد بصفات الممدوح من كونه مُرًّا على الاعداء حلوا للاولياء وطلقا عند الندى جهما عند اللقاء وما اشبه هذه وبهرت وغلبت بظهورها كالشمس تبهر النجوم يعني أنها غلبت الواصفين فلم يقدروا على وصفها فانطق واصفيه لأنهم راموا وصفه ووصف محاسنه ثم أفحمهم بعجزهم عن ادراكه والمفحم الذي لا يقول الشعر والإفحام ضد الإنطاق ويجوز أن يكون التشبيه في الصفات للجمع أي لجمع صفات الممدوح.

يعطيك مبتدئا فإن أعجـلـتـه

أعطاك معتذرا كمن قد أجرما

التعظم أظهار العظمة وضده التواضع وهو أن يظهر الضعة من نفسه ووضع أبو الطيب التواضع موضع الضعة والخساسة كما وضع التعظم موضع العظمة يقول يرى شرفه وارتفاع رتبته في تواضعه واتضاعها في تكبره والمعنى يرى العظمة في أن يتواضع ويرى الضعة في أن يتعظم أي فليس يتعظم.

نصر الفعال على المطال كأنمـا

خال السؤال على النوال محرما

الفعال بفتح الفاء يستعمل في الفعل الجميل والمطال المماطلة وهي المجافعة ولو روى المقال كان أحسن ليكون في مقابلة الفعال يقول نصر فعله على القول وعطاءه على المطل أي يعطى ولا يعد ولا يماطل كأنه ظن أن السؤال حرام على النوال ولا يحوج إلى السؤال بل يسبق بنواله السؤال وهذا مجازٌ وتوسع لن النوال لا يوصف بأنه يحرم عليه شيءٌ ولكنه أراد أن يذكر تباعده عن الانجاء إلى السؤال.

يا ايها الملك المصـفـى جـوهـراً

من ذات ذي الملكوت أسمى من سما

يريد بالجوهر الاصل والنفس وذت ذي الملكوت هو الله تعالى يقول أيها الملك الذي خلص جهوراً أي اصلا ونفسا من عند الله أي الله تعالى تولى تصفية جوهره لا غيره فهو جوهر مصفى من عند الله تعالى وهذا مدح يوجب الوهم والفاظٌ مستكرهة في مدح البشر وذلك أنه أراد أن يستكشف الممدوح عن مذهبه حتى إذا رضى بهذا فقد علم أنه ردي المذهب وإن أنكر علم أنه حسن الاعتقاد وأسمى من سما من صفات ذي الملكوت وابن جنى يجعله للممدوح لأنه قال هو منادي كأنه قال يا أعلى من علا قال ويجوز أن يكون موضعه رفعا كأنه قال أنت أعلى من علا.

نور تظاهر فيك لاهوتـيه

فتكاد تعلم علم ما لم يعلما

تظاهر وظهر بمعنى ويجوز أن يكون بمعنى تعاون أي أعلن بعضه بعضا ولاهوتيه الهيه وهذه لغة عبرانية يقولون لله تعالى لاهوت وللأنسان ناسوت يقول قد ظهر فيك نور الهي تكاد تعلم به الغيب الذي لايعلمه أحد إلا الله عز وجلّ وقال ابن جنى نصب لاهوتية على المصدر ويجوز أن يكون حالا من الضمير الذي في تظاهر وهذا خطا في الرواية واللفظ لأن النور فظ مذكر ولا تؤنث صفته.

ويهم فيك إذا نطقت فصـاحةً

من كل عضوٍ منك أن يتكلما

أي ويهم ذلك النور الآلهي لظهوره أن يتكلم وينطق من كل عضو من أعضائك بخلاف سائر الناس الذين لا ينطقون إلا من أفواههم جعل ظهوره في كل عضو منه نطقا والمعنى لفصاحتك يفعل النور ذلك فيك.

أنا مبصر وأظن أني نـائم

من كان يحلم بالآله فأحلما

يقول أنا أبصرك وأظن أني أراك في النوم وإنما قال هذا استعظاما لرؤيته كما قال، أحلما نرى أم زمانا جديداً، وذلك أن الإنسان إذا رأى شيئاً يعجبه وأنكر رؤيته يقول أرى هذا حلما أي أن مثل هذا لا يرى في اليقظة وهذا كما قال الآخر، أبطحاء مكة هذا الذي، أراه عيانا وهذا أنا، استفهم متعجبا مما رأى ثم حقق أنه يراه يقظان لا نائما بباقي البيت والمعنى لايحلم أحد برؤية الله تعالى ولا يراه في النوم أحدق حتى أرى أنا أي كما لا يرى الله تعالى في النوم كذلك لا ترى أنت وهذه مبالغة مذمومة وافراط وتجاوز حد ثم هو غلط في انكار رؤية الله تعالى في النوم فإن الاخبار قد تواتر بذلك ونكر المعبرون حكم تلك الرؤيا في كتبهم وروى أن ملكامن الملوك رأى في نومه أن الله تعالى قد مات وقص رؤياه على المعبرين فلم ينطقوا فيها بشيء استعظاما لما رأى حتى قال من كان أعلمهم تأويل رؤياك أن الحق قد مات في بلدك لظلمك وجورك وذلك أن الله تعالى هو الحق فعلم الملك أنه كما قال فرجع عن ظلمه وتاب.

كبر العيان على حـتـى إنـه

صار اليقين من العيان توهما

هذا البيت تأكيد لما ذكرنا في البيت الأول يقول عظم على ما أعاينه من الممدوح وحاله حتى شككت فيما رأيت إذ لم أر مثله ولم اسمع به حتى صار المعاين كالمتوهم المظنون الذي لايرى والصحيح رواية من روى إنه بكسر الالف لأن ما بعد حتى جملة وهي لا تعمل في الجمل كما تقول خرج القوم حتى إن زيدا خارج ومن روى أنه بفتح الالف كان خطأَ.