نقل التضخم

3 ـ نقل التضخم من الاقتصاد إلى أسواق المال، فمنذ تولي فكر النقديين زمام الأمور في الدول الصناعية، يتم ضبط الاقتصاد عبر الأدوات النقدية المتعارف عليها، مثل ضبط حجم الكتلة النقدية وسعر الفائدة. كان رفع أسعار الفائدة هو أحد أهم الأسلحة لمحاربة التضخم, و لكن رفع سعر الفائدة هو واحد من أهم الأسباب في زيادة البطالة . حيث تجمدت قيمة المرتبات الحقيقية في الدول الأوربية التي تمتلك نظام حد أدني للراتب يعمل بفاعلية،في حين انخفضت القيمة الفعلية للرواتب في كل من الولايات المتحدة الأمريكية و بريطانيا، وهناك حوالى 13% من حجم سكان الولايات المتحدة الأمريكية يعيشون تحت خط الفقر.

لا يدرك النقديون الجدد الحقيقة الاقتصادية بشكل كلي ولا السبب الحقيقي للتضخم الذي جعلوا من مكافحته التبرير الرئيسي لصلاحية نظرياتهم، حيث أن السبب الحقيقي للتضخم يكمن في الخلل وعدم التوازن الحادث بين الاستهلاك والادخار( الاستثمار). فعند ارتفاع الاستهلاك بنفس معدلات الادخار فان الإنتاج لا يزيد بنفس معدلات الطلب على السلع والخدمات لنقص الاستثمارات، فيتولد حينئذ التضخم. وفى حالة ارتفاع الادخار الكلي على حساب الإنفاق على الاستهلاك، فإن فائض الادخار لا يمكن أن يتحول إلى استثمارات في مجال الصناعة والخدمات، نظراً لأن الاستثمارات الإضافية تولد في تلك الحالة فائض إنتاج من السلع والخدمات لا يمكن استيعابها لانخفاض الطلب الفعلى عليها، في تلك الحالة فإن المدخرات ستتحول تجاه الأسواق التمويلية. القاعدة في هذه الأسواق هي أنه في حالة زيادة الطلب على الأسهم ترتفع أسعارها في الوقت الذي لا ترتفع فيه قيمتها الفعلية، ومن ثم تعاني الأسواق التمويلية في تلك الحالة من تضخم.

وينبع الخلل الرئيسى الحادث بين الإنفاق على الاستهلاك / الادخار من عدة أسباب من أهمها:

أ ـ عدم التوازن في توزيع عوائد الزيادة في الإنتاجية بين العمل ورأس المال. وإذا كان هذا الخلل في التوزيع لصالح العمل، فإن الاقتصاد يشهد زيادة في الطلب يؤدي إلى ظهور تضخم حقيقي في الاقتصاد . أما إذا كانت الاستفادة الأكبر من الزيادة في الإنتاجية لصالح عوائد رأس المال فإن الأسواق التمويلية هي التي ستشهد حالة تضخم.

ب ـ تزايد حالات الادخار الإجباري مثل تزايد مبالغ صناديق المعاشات، أو تزايد حالات الاستهلاك الإجباري كما في حالات مكافآت المعاش المبكر، حيث تحدث الأولى تضخماً في الأسواق التمويلية والثانية تضخما داخل الاقتصاد الحقيقي.

يؤدي التضخم (المضاربة) الحادث في الأسواق التمويلية إلى ارتفاع في قيمة الأسهم بشكل يرفع أرباح تبادلها بشكل ملحوظ عن تلك المتولدة عن الاستثمارات التقليدية. قدم السوق التمويلي في تلك الحالة أربـاحـاً عالية دون أن يكون خاضعاً للضريبة في الكثير من الحالات لينافس بذلك وبشكل غير عادل قطاع الاقتصاد التقليدى، وهو ما يبرر الصعوبات التي تواجهها الشركات المتوسطة والصغيرة في الدول المتقدمة بالرغم من أنها تقدم فرص كبيرة لسوق العمل.

ومن الآثار السلبية للتضخم الحادث في الأسواق التمويلية أن الشركة الطارحة أسهمها في البورصة تجد نفسها مجبرة على رفع أرباح أسهمها، وذلك لأن القيمة الحقيقية للأسهم تعتمد على العلاقة بين قيمة السهم وأرباحه الموزعة؛ فإذا كانت أرباح السهم الموزعة لا تزيد مع زيادة قيمة السهم في البورصة فإن المستثمرين سيتوجهون نحو الأسهم التي توزع أرباحاً أعلى وهو ما سيؤدي إلى انخفاض قيمة الأسهم المتروكة أو المتحول عنها ذات الربحية الأقل.

تعمل آليات الأسواق المالية والتمويلية في الأمد القصير، وبالتالى تجد الشركات نفسها مجبرة على العمل بنفس الطريقة وهو ما يعتبر مناقضاً لكل قواعد الإدارة الاقتصادية الرشيدة المعروفة للجميع. فمن أجل رفع أرباح الأسهم تقوم الشركات بالتخلص من العمالة ولا ترفع قيمة الرواتب وتخفض الاستثمارات ومخصصات البحث، وتلجأ الشركات لنقل النشاط للدول النامية وعندما لا تجد الشركات ما تفعله بعد ذلك تقوم بتزوير الحسابات (مثال شركة إنرون الأمريكية). لا تستطيع الشركات الكبرى رفع حجم مبيعاتها طالما كان حجم الدخول المخصصة للاستهلاك تشهد ثباتاً في معدلات الزيادة أو تراجعاً فتلجأ للاندماج عبر شراء الشركات المتعثرة لتكبر من حجمها، وكثيراُ ما تستدين بما يفوق طاقتها وكل ذلك من أجل إرضاء المساهمين وزيادة أرباح المدراء (وفقاً للإحصائيات فإنه منذ ثلاثين عاما ً كان دخل المدير في الشركات الكبرى الأمريكية يساوي 40 مرة الموظف صاحب أقل دخل، وصلت تلك النسبة اليوم إلى 3000 ضعف).

وعندما يصل التضخم في سوق الأوراق المالية إلى مستوي معين يبدأ الانهيار مع العديد من الأزمات، والأمثلة عديدة؛ المكسيك، جنوب شرق أسيا، روسيا، البرازيل، الأرجنتين، تركيا … الخ. وعندما يبدأ المستثمرون في سحب أموالـهم لتلافي الأزمة و إنقاذ ما يمكن إنقاذه، تنهار أسعار العملة الوطنية لينهار الاقتصاد وتزداد البطالة والفقر. وقد شهدت بورصات الدول المتقدمة ذاتها حالات من التصحيح الذاتي المهمة منها على سبيل المثال حالة انهيار (الاقتصاد الجديد) والذي ضاعت معه مدخرات صغار المستثمرين. بما أن الاقتصاد الحقيقي يعتمد بدوره على الأسواق المالية والتمويلية فقد تأثر بذلك الانهيار و من ثم معدلات التشغيل والبطالة.

لقد أصبحت البنوك المركزية عاجزة عن التحكم في الاستقرار النقدي نتيجة للمضاربة، وأصبحت الأسواق المالية هي التي تحدد رفع أو خفض سعر الفائدة و في حالة عدم أتباع ما تفرضه الأسواق المالية من قبل البنوك المركزية، فإنها ستدفع لانهيار قيمة العملة الوطنية. ومن ثم أصبحت الحكومات اليوم مجبرة على إتباع تعليمات السوق.

وفى الغالب والأعم، فإن الأسواق المالية والتمويلية ليست خاضعة للضريبة ولا يحكمها قوانين صارمة مثل تلك التي تحكم الاقتصاد الحقيقي، في حين أن هذا الأخير مكبل بالضرائب والقوانين الصارمة. وتري الكثير من الحركات المضادة للعولمة أن المضاربة بكل أنوعها على الصعيد العالمي هي النتاج الفعلى لسياسات العولمة المنفذة لنظريات الرأسمالية الجديدة التي تبحث لرأس المال على أعلى معدلات ربح حتى لو كان ذلك على حساب النشاط الإنتاجي و الممارسات الاقتصادية المنتجة، وتعد المضاربة على العملات من أهم النشاطات في اقتصاديات عصر العولمة (حوالى 1500 مليار دولار في اليوم) وما تمثله من خطر على اقتصاديات الدول وأثرها على مستويات البطالة والتشغيل.

يستطيع المضاربون على أسعار الصرف خلق أزمة في الأسواق المالية والاستفادة منها في نفس الوقت، هذا بالإضافة للفوائد الجمة التي قد تعود عليهم من المضاربة على العملات. وقد أدرك الاقتصادي الأمريكي الشهير جيمس توبين والحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد خطورة المضاربة على العملات الوطنية من قبل، وأوضح مدي خطورتها على اقتصاديات الدول، وأقترح حينئذ فرض نسبة متحصلة (عمولة) على كل عملية تبادل للعملة من أجل الحد من عملية المضاربة. ويقترح مؤيدو تلك العملية أن تتراوح النسبة بين واحد من عشرة وواحد من مائة، على أن تفرض تلك العمولة أو الضريبة على عمليات المضاربة فقط التي تتسم بالتكرار و في الكثير من الحالات بالبيع والشراء من وإلى العملة التي يتم المضاربة عليها في نفس اليوم وبمبالغ كبيرة. لكن لم يتبنى أحد ضريبة توبين تحت دعوى أن السوق ينظم نفسه تلقائياً ولا يجب أن يتم أي تدخل خارجي في ميكانيزمات السوق، ولكن من بعد تعاقب الأزمات المالية في دول العالم و لعب المضاربات دوراُ كبيراً في تعميق الأزمة عادت من جديد الدعاوى من أجل تطبيق ضريبة توبين على عمليات المضاربة على العملة، وكان على رأس من نادي بذلك جريدة لوموند ديبلوماتيك الفرنسية ومنظمة أتاك الفرنسية (التجمع من أجل ضريبة على المبادلات المالية والنقدية لصالح مساعدة المواطنين).

لن يقتصر دور تلك الضريبة فقط على الحد من المضاربة بل سيمتد لمساعدة المواطنين ذوى الدخل المحدود على تحمل أعباء الحياة، ويري المطالبون بتطبيق هذه الضريبة أنه من خلالـها يمكن محاربة الآثار السلبية للعولمة. فبجانب القدرة على الحد من المضاربة على العملات وما لـها من أثار مدمرة على العمليات الاقتصادية في الدول النامية يمكن توجيه جزء مهم من حصيلة الضريبة تلك إلى الدول النامية لمساعدتها على تلافي الآثار السيئة للعولمة؛ حيث يمكن منح إعانات أو حتى توجيه استثمارات للدول التي تطبق نظام الحد الأدنى للأجور على المستوي القومى، أو تلك التي تمنع عمالة الأطفال وتلك التي تحترم البيئة و تحرز تقدماً في خفض نسب التلوث … الخ.

ويعارض البعض ضريبة توبين تحت دعاوى صعوبة تحصيلها، ولكن هذا غير صحيح حيث أن القائمين على عمليات تبادل العملة يحصلون عمولة لصالحهم مع كل عملية تبادل للعملة، وهم قادرون على إضافة نسبة الضريبة لعمولتهم كما أن التقدم في تكنولوجيا المعلومات يتيح فرصة تحصيل الضريبة وقت التفاوض على أسعار التبادل كما هو في حالة التفاوض على مبالغ كبيرة بين البنوك ومكاتب الصرافة. ومن الممكن أن تتنوع قيمة الضريبة بين الارتفاع والانخفاض وفقاً لمدي الانهيارات الحادثة في قيمة العملة. ويحدد ذلك البنك المركزي للدولة صاحبة العملة التي يتم المضاربة عليها. وتعد هذه الضريبة وسيلة لمساعدة البنوك المركزية على إعادة التوازن لسعر العملات بدلاً عن التدخل في أسواق التبادل باستخدام رصيد تلك الدول من العملات الأجنبية، ووقوعها في الكثير من الحالات تحت رحمة المنظمات التمويلية الكبرى وخروجها مدينة من كل أزمة نقدية.

ثالثاً ـ بدايات حركة مناهضة العولمة

كان فشل مؤتمر كانكون ديسمبر 2003 نقطة تحول فاصلة فى حركة تطور العولمة، حيث صدرت عناوين الصحف بعد مؤتمر كانكون معلنةً فشل مؤتمر منظمة التجارة العالمية، ووصل الأمر بالبعض إلى حد إعلان موت المنظمة. وقد أرجعت الصحافة هذا الفشل إلى فلاحي الدول النامية والمنظمات الأهلية غير الحكومية التي اتخذها الفلاحون كمستشارين لهم.

تعتبر تلك التعليقات الصحفية شديدة المبالغة كالعادة كما كان الوضع بعد مؤتمر سياتل الذي شهد تعليقات أكثر إثارة، فمازال النظام الرأسمالى في شكله الليبرالى الجديد يعمل بكفاءة ومازالت ضحاياه تزداد يوما من بعد يوم، ومازالت مجموعات الضغط لرجال الأعمال (بالذات اتحاد رجال الأعمال الأوربيين) تدفع من أجل العودة للمفاوضات بشكل سريع.

لم يجتمع أعضاء اللجنة التي تقرر تشكيلها من بعد مؤتمر الدوحة في مقر منظمة التجارة العالمية منذ مؤتمر كانكون وهي اللجنة المخولة بمناقشة البرامج التي توقفت عندها في الدوحة. وقد ترك لرئيس المجلس (مجلس ممثلي الدول الأعضاء في منظمة التجارة) السفير الأوروجواني كارلوس بريز دي كاستيلو اتخاذ اللازم من أجل إعادة بدء عملية المفاوضات على قرارات الدوحة. والمعروف أن الأساس الذي ترتكز عليه عملية المفاوضات هو إعلان 13 سبتمبر 2003، والذي يلائم متطلبات البلاد الغنية على حساب بلدان الجنوب. أعلن دي كاستيلو في 15 – 16 ديسمبر 2003 في كانكون عن تعثر المفاوضات و أتساع الـهوية بين دول الشمال ودول الجنوب. وقد أكدت معظم دول الجنوب رفضها لإعلان 13 سبتمبر حول الزراعة حيث أنه ليس سوى نسخة منقحة من ذلك الإعلان الذي صدر في 13 أغسطس 2003 حول الزراعة عقب اللقاء المشترك بين ممثلي كل من الولايات المتحدة الأمريكية و المجموعة الأوربية، وأن رغبة دي كاستيلو في أخذ هذا النص كنقطة انطلاق تبدأ منها المفاوضات لا يقرب بين وجهات النظر. وتعد كذلك النقاط الأساسية التي ينبع منها الصراع في وجهات النظر التي يتضمنها إعلان 13 سبتمبر هي القطن و فتح الأسواق أمام المنتجات غير الزراعية، وهي النقاط التي أدخلت المفاوضات في نفق مسدود.

وعقب الاجتماع الوزاري لوزراء منظمة التجارة العالمية فى سنغافورة من أجل أن يكون قاعدة المفاوضات التالية بعد العام 1999، برز تعبير عناصر سنغافورة على العناصر التي تم التوصل إليها في هذا الاجتماع، والتى يبلغ عددها أربعة عناصر (الاستثمارات – عقبات التبادل التجاري- المنافسة – أسواق المشروعات العامة). وقد سعت الدول المتقدمة وبالذات الاتحاد الأوربي إلى التحول مباشرةً إلى التفاوض على النص المقدم دون الخوض في مناقشات مطولة عنه. ولكن رفضت بشدة الدول الآخذة في النمو رفضاً باتاً مبدأ الحد من حريتها في دعم الشركات المحلية العاملة داخل اقتصادها الوطني فيما يخص المشروعات العامة ومنحها الأولوية عن الشركات الأجنبية، وهو أمر غير ممكن في حالة تطبيق بند عناصر سنغافورة الخاص بسوق المشروعات العامة، الذى ينص على التعامل مع الشركات الأجنبية بنفس أسلوب التعامل مع الشركات الوطنية فيما يخص المشروعات العامة.

وقد ادعى الاتحاد الأوربي المرونة في مواجهة هذا المطلب معلناً استعداده للتفاوض بشكل منفصل على كل عنصر من عناصر سنغافورة، وهو ما لا يعني التنازل عنها و يتماثل مع ما طرحه دي كاستيلو في تناول عنصرين فقط من العناصر الأربع المطروحة(تسهيل عملية التبادل – سوق المشروعات العامة) بشكل منفصل عن العنصرين الآخرين (الاستثمارات – المنافسة ) مع دراسة كيفية التفاوض فيهما مستقبلاً . لكن المشكلة تكمن في أن المفاوضات المنفصلة تلك ستتم عبر ما يعرف بالمفاوضات الجماعية (مفاوضات تشترك فيها الدول التي ترغب في المشاركة وتكون النتائج ملزمة لكافة الأعضاء). بهذا يسعى الاتحاد الأوربي إلى تحقيق ما يرغب فيه على مرتين، وقد أيدت كل من كندا والولايات المتحدة وسويسرا هذا الاقتراح الذي عرف باسم ( 2+ 2). ولكن الدول الآخذة في النمو (الصين – الـهند – نيجيريا – جنوب أفريقيا – والبلدان الأكثر فقراً) قدمت نصاً تطالب باستمرار النقاش حول ثلاثة من العناصر الأربعة، مع المطالبة بالمزيد من التوضيحات حول العنصر الرابع ورفضوا رفضا باتاً مناقشة العناصر بشكل جماعي حيث أن منظمة التجارة العالمية وفقاّ لميثاقها منظمة متعددة الأطراف، وبالتالى يجب أن تتم المناقشة والتفاوض بمشاركة كل الأطراف.

لم يتم التوصل لنتائج إيجابية خلال كانكون حيث لم تحل المشاكل المعلقة، إلا أن مؤتمر كانكون أثبت أن الدول النامية تسعى إلى توحيد صفوفها للصمود أمام ضغوط الدول الغنية بالرغم من تناقض مصالح الدول النامية في بعض الحالات وتباين مستويات النمو الاقتصادي فيما بينها.

لم تعد مقاومة العولمة محصورة على الحركات الجماهيرية التي تملئ الشوارع وشاشات نشرات الأخبار والصحف عند عقد كل اجتماع من اجتماعات منظمة التجارة العالمية أو اجتماعات ديفوس، بل أصبحت هناك مجموعات تتشكل داخل المنظمة نفسها وهي مجموعات لا تعتمد الأساس الجغرافي أو مستوي التطور الاقتصادي كمنطلق لها، بل أنها تجتمع على تشابه المواقف تجاه قضايا وملفات بعينها مثال مجموعـــة (جي 20) في مواجهة ملف الزراعة وعناصر سنغافورة و مجموعة (جي 90) في مواجهة ملف القطن والمواد الغير زراعية، وذلك من أجل تشكيل قوة في مواجهة ضغوط الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي.

لم تقم تلك المجموعات الجديدة المشكلة حول ملفات بعينها بإضعاف التكتلات القديمة الموجودة على أسس سياسية وجغرافية مثل تجمع البلدان الأفريقية و تجمع بلدان الكاريبي و المحيط الـهادي أو تجمع البلدان الأكثر فقراَ، بل على العكس شاركت تلك التجمعات في مناقشات و مداولات مجموعات جي 20 وجي 30 من اجل صياغة موقف مشترك.

وبالرغم من أن وسائل الأعلام في كل من الولايات المتحدة و أوربا أعلنت مراراً عن تفكك تلك المجموعات وعدم فاعليتها لعدم إجماع أعضائها على موقف مشترك، ولكن الواقع الفعلى اثبت أن المناقشات في داخل قلب تلك المجموعات التي تمت قبل انعقاد جلسات 15- 16 ديسمبر 2003 دعمت موقف مجموعات جي 20 وجي 30، حيث أعلنت المجموعات رغبتها في التفاوض و لكن دون الخضوع لأي ضغوط كانت من قبل الدول الكبرى . رهنت الولايات المتحدة الأمريكية و أوربا العودة للمفاوضات بما سمته بمرونة الدول الآخذة في النمو فيما يخص ملفات (الزراعة – عناصر سنغافورة – المنتجات غير الزراعية). يعنى ذلك من وجهة نظر الأوربيين توقف الدول المعنية عن الاعتراض على مشروع الإعلان الوزاري المقدم في كانكون، وأعلنوا على استعدادهم للعودة للمفاوضات بشرط الخضوع لمتطلباتهم.

يجمع تجمع جي 90 العديد من الدول الآخذة في النمو وهي الدول التي تعارض التفاوض على عناصر سنغافورة، أنضم للمجموعة في بداية تجمع كانكون حوالى أربعين دولة ثم أصبح سبعين حتى وصل مع نهاية المؤتمر إلى 90 دولة، طالبوا بسحب عناصر سنغافورة من أجندة منظمة التجارة العالمية وألا يتم التفاوض حولـها.

تكونت مجموعة جي 20 من أجل حماية مبادئ حرية التبادل من قبل أعضاء منظمة التجارة العالمية، ومن أجل أن تحترم تلك المبادئ في مجال الزراعة من قبل الجميع بما فيهم الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوروبية، وقد قدمت مجموعة العشرين العديد من الاقتراحات البديلة، و تمثل مجموعة العشرين حوالى نصف سكان العالم وحوالى 63% من فلاحينه حيث نجد بين أعضائها دول مثل جنوب أفريقيا – الأرجنتين – البرازيل – الصين – الـهند – بوليفيا – باراجواي – باكستان. اثبت مؤتمر كانكون أن وجود مجموعات المقاومة تلك تمثل ثقلاً مضاداً لمشروعات العالم المتقدم في السيطرة على اقتصاديات العالم عبر منظمة التجارة العالمية وأنها قادرة على الصمود في مواجهة كل أنواع الضغوط.

ولأول مرة منذ إنشاء منظمة التجارة العالمية تتكون في داخلها قوي تمنع تحقيق خيارات مجموعة الدول الغنية ( كندا – الولايات المتحدة – المجموعة الأوربية – اليابان). بالتأكيد يعكر هذا التجمع صفو الدول الغنية التي لا ترغب في مشاركتها في صنع القرار وتقسيم خريطة العالم اقتصادياً، مهما كانت ادعاءاتها بالمرونة والرغبة في الحوار وتبادل وجهات النظر.

وبعيدا عن المرونة الأوربية المفتعلة والتي هي في الأصل موجهه إلى الصحف ووسائل الأعلام، جاءت نهاية مؤتمر كانكون ببعض الأخبار السعيدة متمثلة في (شرط السلام) الذي انتهي مع نهاية عام 2003. ينص شرط السلام هذا على عدم تقديم شكاوى من قبل الدول التي تحترم قواعد المنظمة فيما يخص الزراعة ضد الدول التي تخرق تلك القواعد وهم بالتحديد الولايات المتحدة والاتحاد الأوربي. يعد هذا الخبر من الأخبار السارة للدول الآخذة في النمو التي طالما عانت من مخالفات الدول الكبرى، وقد حاولت تلك الدول بدورها مد العمل بهذا الشرط فيما بعد عام 2005 ولكنهم لم ينجحوا في هذا.

طرحت الولايات المتحدة الأمريكية التي يتهمها الاتحاد الأوربي بموقف سلبي داخل المنظمة مشروعاً جديداً قدمه وزير التجارة الأمريكي روبرت زويليك يعلن فيه أن الولايات المتحدة تحاول تلافي أن يكون 2004 عاماً ضائعاً على منظمة التجارة العالمية، واقترح تركيز الجهود الرئيسية على ثلاثة موضوعات هي: الزراعة (والتي يضم إليها القطن) والمنتجات غير الزراعية وقطاع الخدمات.

وعلى عكس الاتفاق الأمريكي الأوربي السابق يقترح البيان الأمريكي أولوية التفاوض على ملف الزراعة على أن يحدد تاريخاً لوقف دعم المنتجات الزراعية من قبل الحكومات من أجل تصديرها، كما أنه يطالب بإدخال القطن مع ملف الزراعة و ليس مع المنتجات الغير زراعية. ويري المشروع المقدم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية أن المفاوضات حول ملف الزراعة يجب أن تسبق التفاوض حول أسواق السلع الغير زراعية. ويقترح المشروع أيضا أنه البحث عن معادلة لإعفاء المنتجات الصناعية من الجمارك تدريجيا بحيث تكون الإعفاءات مرنة بالشكل الذي يستفيد منه الجميع، على أن تختفي الجمارك على البضائع في غضون 15 ـ 20 عاماً.

فيما يخص قطاع الخدمات، يؤيد وزير التجارة الأمريكي الاقتراح المقدم من 40 دولة أن تتم مشاركة باقي الأعضاء من الدول المتقدمة والدول الآخذة في النمو، وأن تحدد قطاعات الخدمات التي تحقق التكامل والتناسق بين الدول المتقدمة في مجال الخدمات.

فيما يخص عناصر سنغافورة، فيقترح زويليك التفاوض فقط حول بند تسهيل عملية التبادل والذي وفقا لوجهة نظره ليس إلا امتداد لعمليات فتح الأسواق أمام المنتجات. أما المفاوضات حول أسواق المشروعات العامة فإنه يقترح التفاوض حولها (تفاوضا جماعياً) وليس تفاوضاً متعدد الأطراف يجمع كل أعضاء المنظمة، أو إلغاء المفاوضات حولها وضمها لملف الاستثمارات والمنافسة، مع الدعوة لمؤتمر قادم في هونج كونج لمتابعة عمليات المفاوضات.

يعد هذا الخطاب شديد الذكاء حيث أنه يحاول مع مرونته الشديدة أن يتلاشى المفاوضات متعددة الأطراف التي لا يوافق عليها الكونجرس الأمريكي، وبالتالى فإنه يحاول أن يرضي طموح بعض الدول الآخذة في النمو ليمرر التفاوض الجماعي (كما سبق وأوضحنا هو تفاوض تشترك فيه الدول الراغبة في المشاركة فقط على أن تكون قراراتها ملزمة للجميع). يزيد الموقف الأمريكي المرن من عزلة المجموعة الأوربية التي بالتأكيد ستسعى للرد بمقترح جديد يضمن لها مصالحها .